أوباما السوداني .. قادم ـ أمير بابكر عبدالله
سأل يوسف العصري بحيرة:
"وأين كان الأتراك؟"
"جاء ذكر العثمانيين، ألم تسمع؟"
"هل هذان بمعنى واحد؟"
"لست أدري"
"انت تقرأ.."
***
"جنود يحاولون تمرير المدفع عبر الجسر
والنساء الأرمنيات يقدمن المساعدة..."
وانا أقرأ ـ مرة أخرى ـ هذه الكلمات من المشاهد الإنسانية التي رسمها الشاعر التركي ناظم حكمت، شد خيوط ذاكرتي وقفز إلى ذهني، ذلك الإعلان مدفوع الأجر الذي نشرته صحيفة يومية، وعلى صفحة كاملة ملونة، تشكر فيه الشركة التركية ورئيس مجلس إدارتها السيد رئيس الجمهورية بمناسبة منحها نجمة الإنجاز، وذلك لمجهوداتها المقدَّرة في الانتهاء من المشروع العظيم جسر المك نمر.
كأني لمحت بين ثنايا ذلك الإعلان صورتي المك نمر وإسماعيل باشا تعبران الجسر الذي يذبح النيل الأزرق أسفل الرقبة من الوريد إلى الوريد، ليضعك حيث شئت في بحري أو الخرطوم. طافت بذهني كل الصور منذ الغزو التركي المصري على السودان وحتى الإحتلال الانجليزي المصري كما يروي تاريخنا، أو كما يقال، ليس الآخرون بالنسبة إلينا ما رأيناه فيهم بأعيننا وحسب، بل هم إلى ذلك ما أخبرونا به عن أنفسهم، أو ما أخبرنا به غيرهم عنهم، وليسوا كذلك أولئك الذين عرفناهم، بل كل الذين ترامت إلينا أخبارهم.
ما شد انتباهي أكثر من ذلك هو أن الباخرة التي أقلت كتشنر وبعض جنده والتي يطلق عليها اسم الملكة تقبع أسفل الجسر من الناحية الشرقية، ويقوم عليها نادي الزوارق الآن بعد أن جرفها التيار إلى اليابسة.
لم أعد استغرب كثيراً أثناء مروري في شوارع العاصمة. فالمطاعم تركية تفوح منها رائحة اليخني والبهارات التركية، والخبز مصنوع في مخابز تركية وحتى بعض شركات حفر السايفونات ـ حيث تخرج فضلاتك وترتاح ـ تقوم على تكنولوجيا وأيادي تركية. ولا نزال نطلق على ذلك المكان "الأدبخانة" وهي مفردة تركية. هذا غير مراكز صيانة السيارات ومخازن السيراميك والأثاث الفاخر، والعديد من المشروعات الموقعة رسمياً بين البلدين.
ولا زلت أقرأ في مشاهد الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت الإنسانية، ذلك المقطع حين اختطف البقال جريدة من يوسف العصري ليقرأ منها لحضرة الآغا:
"تصرف صحيح،
قديماً كان أصحاب المحلات التجارية
في استانبول وفي البي أوغلو
يكتبون بالفرنجية أيضاً على اللافتات.
أما الآن فقد أصبح ذلك ممنوعاً،
أمر جيد،
يجب ان يكتبوا بالتركية،
أولئك الذين يأكلون خبز الأتراك"
ما هو أكيد أن هذه الظاهرة، ظاهرة وفود وهجرة أعداد ملحوظة من دول مختلفة إلى السودان، لا تقتصر على الأتراك وحدهم. وهي كذلك ليست بظاهرة جديدة، فإن جاء ابناء محمد علي باشا، الحاكم في مصر تحت عباءة الباب العالي في استانبول، تحميهم البنادق وتحملهم الخيول البواخر والأرجل غزواً لجنوب الوادي، فقد جاء ذلك وفق استراتيجية سياسية وعسكرية واقتصادية، لكنهم خلفوا وراءهم، بعد دحرهم بعد أكثر من ستين عاماً، العديد من الوافدين (أتراك ومصريين وأرمن وغيرهم) الذين صاروا نسيجاً سودانياً خالصاً، يمتلكون العديد من المشاريع والعقارات إلى يومنا هذا.
حتى النساء الحانقات على أزمة السكر وغلاء سعره عندما يطالبها صغيرها بزيادة سكر في كوب الشاي باللبن تصيح في وجهه ساخطة "أريتك بي سكرة ينِّي". و"يني" هذا يوناني سكير من العهد القديم كان مضرب مثل ولا زال، ولا ادري أن كان الموسيقي البديع والقائد الأوركسترالي البازخ اليوناني "ياني" يمت له بصلة قربى أم هو أسم على أسم كما يقولون.
هذا غير الأحياء السكنية التي أطلقت عليها أسماء تخصهم، ولعل أكثرها أناقة وفخامة حي الأغاريق في بورتسودان الذي يقع في قلب المدينة. هل لا يزال يحمل ذلك الإسم بعد أن خلا من الأغاريق؟ وربما هناك القليل من نسلهم. كان بعض أصدقائنا ـ أيام الصبينة ـ ينطق وجهه بشراً وسروراً وتنتفخ أشداقه نشوة، حين يسألون عن مكان سكنهم، ليخرج الرد منتفخاً: " أنا أسكن حي الأغاريق".
وهذه الظاهرة لم تقتصر على الأتراك وحدهم بسبب غزوهم للسودان في القرن قبل الماضي، ولا عودتهم الناعمة الآن في إطار سياسات الانفتاح والسوق الحر، ولكنها شملت كثير من شعوب العالم الأفريقي والآسيوي. فالسودان بلد منفتح على تسع دول تحيط به إحاطة السوار للمعصم، من الطبيعي أن يشهد حراكاً وتواصلاً عبر حدوده تلك. القبائل الحدودية المشتركة تلعب دوراً أساسياً في هذا التواصل، لكنه يظل طبيعياً ومنطقياً في ظل ترسيم الحدود الجغرافية بعد خروج المستعمر. وليس مستغرباً ولا يثير الريبة في المناطق الحدودية، بل يحمل هؤلاء في كثير من الأحيان جنسيتين، فهم سودانيون هنا ومواطنون شرعيون في تلك الدولة.
وكذلك الهجرات الجماعية العربية والإفريقية المتأخرة، خاصة من الجزيرة العربية وغرب وشرق إفريقيا. نجد في شرق السودان قبائل مثل الرشايدة تسودنت في ظل شروطها الاجتماعية والثقافية حتى الآن، وصارت ضمن النسيج السوداني ومصيرها المنطقي، والذي بدأت ملامحه في الظهور، هو التفاعل مع الواقع المحيط. فها هم أفرادها يتغلغلون في هدوء شديد داخل هذا النسيج عبر التزاوج وإلتزامات الحقوق والواجبات التي تحدد علاقتهم بالدولة، فصارت لهم نظارتهم ونوابهم في البرلمانات وحتى صاروا يتعاطون السياسة عبر مواعين سياسية مختلفة مساهمين بدورهم في العملية السياسية. وهذا ينطبق على الهجرات من غرب إفريقيا التي استقرت جماعاتها غرباً وشرقاً وفي جميع أنحاء السودان، وكذلك المهاجرين واللاجئين من شرق إفريقيا.
وجاءتنا الآن ظاهرة الصينيين والبنغال والفلبينيين وغيرهم في ظل السياسات الاقتصادية الحالية، لتكتمل ملامح الصورة للولايات المتحدة السودانية. وقريباً سنشهد الحي الصيني بعد المطاعم الصينية والحي البنغالي والحي الفلبيني. لكن ما هو أكيد أن تلك الهجرات الحالية لها تأثيراتها المستقبلية، فالتحولات الديمغرافية التي أحدثتها الهجرات السابقة وضعت بصماتها السياسية والاجتماعية والثقافية على المشهد السوداني. فها هو الزغني يثبت وجوده كوجبة غذائية ذات أصول إثيوبية صارت مرغوبة ويهاجر إليها السودانيون في المطاعم الإثيوبية المنتشرة في كثير من مناحي السودان، ومع مرور الوقت صارت تقدمها حتى المطاعم السودانية.
وذات المشهد مرشح لتحولات في المستقبل القريب على الصعيد الاجتماعي والثقافي يحتم التحوط لإفرازاتها ودراسة استيعابها في إطار النسيج السوداني. فقد كانت الهجرات السابقة تتسق في بعض قيمها والمعايير السودانية لقرب الجماعات المهاجرة من المحيط السوداني وتوافقها مع المزاج العام. أما تلك فجاءتنا تحمل قيمها الاجتماعية والثقافية المغايرة، ما يعني أن في انتظارنا تحولات كبرى على تلك الصعد. فعلماء الأنثروبولوجيا يذهبون في تعريفهم للإتصال الثقافي أو عملية التثاقف إلى أنه يعني "تأثّر الثقافات بعضها ببعض، نتيجة الاتّصال بين الشعوب والمجتمعات، مهما كانت طبيعة هذا الاتّصال وأهدافه، وإن كانت معظم دراسات الاتصال الثقافي ركّزت بالدرجة الأولى، على نوع معيّن من عمليات التغيير، وهو التغيير الاجتماعي أو تغيير الحياة الاجتماعية، وانعكاس ذلك التغيير على الثقافة".
ذلك يتطلب التعامل بمرونة كافية لمحاولة استيعاب تلك التغيرات، والتي ستشكل إضافة وتنوعاً وبعداً جديداً لهوية سودانية لم تتشكل بعد. وعلى حد زعمي الذي كتبته مرة بأن " القراءة المتأنية لتاريخ وواقع السودان يقول أنه يتشكل ويتخلق عبر مسيرة طويلة وداخل منظومة قوانين معملية، برغم ما تتيحه من مساحة لإنحرافات هنا وهناك تتجلى مظاهرها في صور استغلال ذلك التشكل والتخلق لصالح مشاريع فكرية كانت أو سياسية. وليس مظاهر الصراع الذي يأخذ أشكالاً وصوراً متعددة سوى واحد من تلك المعامل التي تتشكل داخلها هويتنا. ولأنه لا يمكننا تحديد سقف أدني ولا أعلى لمفهوم الهوية ولا تكبيل عناصر تفاعلها، سيظل الصراع يأخذ أشكاله وصوره باستمرار والتي تحددها مراحل تطور الهوية".
الإفرازات على الصعيد الاجتماعي تحمل بين طياتها وجود أقليات بثقافات متباينة إضافة للتباين الموجود أصلاً، وهذا يقودنا للحديث عن ظواهر جديدة مثل زواج سودانية بسوداني من أصول صينية أو سوداني من سودانية من أصول فلبينية وهكذا. وربما يجيء أوباما سوداني أمه سودانية ووالده سوداني من أصول بنغالية.
عزيزي القارئ، كثيرة هي الإفرازات التي يمكن أن يقودك لها خيالك وستجدها تطابق الواقع المنظور إذا كتبت لك الحياة لتشهد ذلك بنفسك.