الدعوة العامّة وبداية الصراع
وكان لا بدّ للدعوة أن تتحوّل إلى الدائرة الأوسع ، وكان ذلك حين أمر الله تعالى رسوله الكريم (ص) :
(فَاصْدِعْ بِمَا تُؤْمَر وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِين * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِين ).(الحجر/ 94)
فصعد الرسول (ص) على جبل الصفا بمكّة ، وجمع الناس إليه، وأعلن دعوته
السماوية على الملأ ، ورغم أنّ أغلب الناس انصرف عن دعوته ، إلاّ أنّ
بعضهم اسـتجاب وآمن ، كما أن نبأ الدعوة الالهيّة دخل إلى كلّ بيت .
حاول الكفّار الجاهليون عزل الرسول (ص) عن مجتمعه ، فوصفوه بالكاذب
والشاعر والساحر والمجنون ، وواجهوه بالسخرية والاستهزاء ، لكن ذلك لم يثن
رسول الله (ص) ، ولم يقف حائلاً دون مضيّه بدعوة الحقّ؛ فقرّروا مساومته
بعروض مغرية من السيادة والملك والثروة ، فقد جاءه أحد وجهاء قريش يعرض
عليه اُموراً لعلّه يقبلها ، وممّا قال له :
( يا ابن أخي ! إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً ، جمعنا لكَ من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً .
وإن كنتَ تريد شرفاً سوّدناك علينا ـ جعلناك سيِّدنا ـ حتّى لا نقطع أمراً دونك .
وإن كنتَ تريد به ملكاً ملّكناك علينا ) (9) ...
لكن رسول الله (ص) رفض كلّ ذلك باصرار ، فلجأوا إلى الضغط عليه عائلياً ،
وخاب سعيهم أيضاً بسبب شجاعة الرسول (ص) وثباته وحماية أبي طالب (ع) له .
التفّ بنو هاشم ـ أقارب الرسول ـ حوله وأجمعوا على الذود عنه (10) إلاّ
عمّه أبو لهب فقد تمزّق حقداً وهو يرى رسول الله يحظى بدعم عشيرته .
لمّا فشلت المفاوضات ، جاء دور الاضطهاد المادّي للرسول (ص) ، وقد اتّخذ
ألواناً شتّى ، حيث رجموا بيته بالحجر ، وألقوا النجاسات أمام داره ،
ووضعوا الشوك في طريقه .
وقد خنقه عقبة بن أبي معيط في رجال من قريش حتّى كادت روحه (ص) تفيض .
وسلّطوا الصبيان عليه يرمونه بالحجارة (11) ، إلى غير ذلك من أساليب الأذى
والملاحقة ، وكان (ص) يتلقّى ذلك بالصبر ، ويحتسبه عند الله تعالى ، وهو
يقول : «ما اُوذيَ نبيٌّ بمثل ما اُوذِيت» .
وكما آذت قريش رسول الله
(ص) ، فإنّها بادرت إلى إيذاء السابقين من المؤمنين ، وقد عاملتهم منذ
البداية بالارهاب والاضطهاد والايذاء والتشريد .
وقد تعرّض المؤمنون
لأشدّ أنواع التعذيب والاضطهاد ، كما عذّب واضطهد أتباع الانبياء والرسل
من قبل ، وكان آل ياسر نموذجاً رائعاً للصبر في سبيل الله والاصرار على
المبدأ ، رغم ألوان التعذيب الّتي تعرّضوا لها .
كان أبو جهل يعذِّبهم
عذاباً شديداً ويضربهم بالسياط ، حتّى طعن أبو جهل سميّة زوجة ياسراً
واُمّ عمار وقتلها ، فاستشهدت وكانت أوّل من استشهد في الاسلام ، ثمّ عذّب
زوجها ياسر حتّى مات .
أمّا بلال الحبشي فكانوا يشدِّدون في ضربه
وتعذيبه ، ويضعون صخرة كبيرة على صدره وهو عريان ، ويسحبونه على الرمال
المحرقة في حرارة الشمس ، ويطلبون منه أن يكفر بالله ورسوله ، وهو يزداد
إيماناً وصبراً وينادي : (أحدٌ ... أحد) .