فضيلة الشيخ الدكتورالعلامة يوسف القرضاوي الموقر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد): أثيرت فيما بيننا قضية اللهو بين المسموح والممنوع، واختلفت الآراء حول هذا الأمر. فنرجو من سماحة شيخنا العلامة فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله تعالى: بيان رأيه في ما يعرف بالرقص، وهل يدخل ذلك في الأمور المباحة أم الأمور المحظورة شرعا؟ في ضوء ما عرفناه عن سماحتكم: من وسطية في المنهج، واتباع للدليل، مع مراعاة لفقه الواقع، وفي ضوء رد الجزئيات إلى الكليات، وفهم النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية.سائلين الله أن ينفع بعلم سماحتكم، ويبارك في عمركم، ويمتع المسلمين بكم، ويجعلكم ذخرا لهذه الأمة، وهذا الدين. وأجاب فضيلته على السائل بقوله:الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد فالإسلام دين واقعي لا يحلق في أجواء الخيال المثالية الواهمة، ولكنه يقف مع الإنسان على أرض الحقيقة والواقع. ولا يعامل الناس كأنهم ملائكة أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع. ولكنه يعاملهم بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
لذلك لم يفرض على الناس ـ ولم يفترض فيهم ـ أن يكون كل كلامهم ذِكْرا، وكل صمتهم فكرا، وكل سماعهم قرآنا، وكل فراغهم في المسجد. وإنما اعترف بهم وبفطرهم وغرائزهم التي خلقهم الله عليها، وقد خلقهم سبحانه يفرحون ويمرحون، ويضحكون ويلعبون، كما خلقهم يأكلون ويشربون.
ولذلك شرع الإسلام للناس أنواعا شتى من اللهو والترويح، ومن ألوان اللهو والترويح التي اتخذها الناس في بلدان مختلفة، وفي عصور شتى: الرقص. ولا نستطيع أن نقول: الرقص كله مباح، أو الرقص كله محظور.
فحسب نوع الرقص، ومن يقوم به من رجل أو امرأة، وما يصاحبه من محرم شرعي أو لا يصاحبه، يكون الحكم عليه.
الرقص المباح
فمن المباح: رقص الرجال في المناسبات السارة، بما لا يكشف عورة، ولا يؤذي أحدا، ولا يعطل عن صلاة أو واجب، ولا ينافي قيمة دينية أو خلقية حث عليها الإسلام.
وأوضح دليل على مشروعية هذا النوع هو: رقص الحبشة بحرابهم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد بمشهده وتشجيعه وحثه لهم، حتى كان يقول لهم: " دونكم يا بني أرفدة " وهو اسم ينادى به الحبشة. كما يقال للروم: يا بني الأصفر، ونحو ذلك.
روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأقبل عليه رسول الله، وقال: دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا.
قالت: وكان يوم عيد فيه السودان (أي الحبشة) بالدرق والحراب، فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم، وإما قال: " تشتهين تنظرين؟ " فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: "دونكم يا بني أرفدة" حتى إذا مللت، قال: "حسبك"؟ قلت: نعم. قال: "فاذهبي".( متفق عليه، كما في اللؤلؤ والمرجان (513) والدرق: الترس إذا كان من جلود فيه خشب.)
وروى الشيخان أيضا عن أبي هريرة قال: بينا الحبشة يلعبون عند النبي صلى الله عليه وسلم بحرابهم، دخل عمر، فأهوى إلى الحصى، فحصبهم بها، فقال: "دعهم يا عمر".(متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان514 )
(وروى الإمام أحمد في مسنده عن علي رضي الله عنه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وجعفر وزيد (أي ابن حارثة) فقال لزيد: أنت موالي (وفي رواية: أنت أخونا ومولانا) فحجل، قال: وقال لجعفر: أنت أشبهت خَلْقي وخُلُقي، فحجل وراء زيد، قال: وقال لي: أنت مني، وأنا منك، قال: فحجلت وراء جعفر
والحجل: أن يرفع رِجْلا ويقفز على الأخرى من الفرح. وقد يكون بالرجلين إلا أنها تسمى قفزا.
والحجل هو ضرب من الرقص، وإنما رقص زيد وجعفر وعلي رضي الله عنهم، تعبيرا عن فرحهم بثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل منهم.
وقد ذكر الحافظ البيهقي هذا الحديث في سننه تحت عنوان (باب من رخص في الرقص إذا لم يكن فيه تكسر ولا تخنث). وساق الحديث ثم قال: هانئ بن هانئ ـ أحد رواته ـ ليس بالمعروف جدا، وفي هذا ـ إن صح ـ دلالة على جواز الحجل.. فالرقص الذي يكون على مثاله يكون مثله في الجواز، والله أعلم.( انظر: السنن الكبرى للبيهقي (10/226).
وقوله: ليس بالمعروف جدا، يعني أنه معروف، وإن لم يكن جدا، ويكفي أن الإمام البخاري ذكره في تاريخه الكبير، وقال: (سمع عليا) ولم يذكر فيه جرحا.
وتأسيسا على ذلك لا نجد أي حرج شرعي في الرقصات الشعبية المشهورة المتوارثة في الأقطار العربية والإسلامية المختلفة، والتي يمارسها الناس في المناسبات السارة مثل الأعياد الدينية، والذكريات القومية، والأفراح الشعبية، كما في رقصات العرضة والرقص بالسيف في بلاد الخليج، ورقصات (الدبكة) في فسلطين وبلاد الشام بصفة عامة، ومثل التحطيب واللعب بالعصا في مصر. وفي كل بلد نجد ألوانا من الرقص الشعبي المعبر عن الفرحة والابتهاج، ليس فيه تكسر ولا تخنث، ولا يعمد إلى أي نوع من أنواع الإثارة. ومثل هذا لا ينكر شرعا.
ومما يدخل في هذا: رقص النساء في الأعراس، بعضهن مع بعض، مجاملة للعروس، إذا لم يشتمل على منكر آخر يقارفه.
الرقص المحظور
وإذا كان ما عرضنا له هنا بعض من الرقص المشروع والمأذون به، فهناك ألوان أخرى من الرقص تعد محظورة شرعا، لما تشتمل عليه من مخالفات ينكرها الدين.
فإذا كانت المرأة تفعل ذلك في ناد مغلق على النساء، ولا يشهده الرجال، فلا حرج في ذلك، فهو ضرب من ضروب الرياضة. ما لم يكن فيه كشف لعورة محرمة.
ولكن الحرج يتأتى إذا تم ذلك في حضور الرجال الذين ليسوا بمحارم لهؤلاء النساء، ولا يحل لهم الاطلاع على ما أمر الله بستره من زينتهن، كما قال تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) النور:31.
كما لا يجوز أن يصور هذا المشهد وينقل إلى الرجال أيضا.
|