لعله من نافلة القول, إن مدينة شندي صورة مكررة لمدن السودان الأخرى التي صارت كل منها سوداناً مصغراً بكل ما فيه من التفاصيل, من حيث التنوع العرقي والتباين في العادات وفي أساليب العيش والتعايش وفق ثقافات وقيم متجذرة, وقد تتقاطع أحياناًً لأنها تستمد خصائصها من مشارب وبيئات مختلفة.
بعد شيوع ثقافة الهجرات والانفتاح الجماعي في السودان في العقود الثلاثة الأخيرة نتيجة للبحث عن كسب الأرزاق وتحسين الأوضاع, فقد أصبحت شندي كغيرها من المدن مكتظة بالسكان, وظلت وتيرة الزيادة تتصاعد لأعلى, والذي ساعد في ذلك تمدد الطرق المعبدة وسهولة حركة المواصلات بين ولايات السودان مما حطم نظرية المسافة والبعد الجغرافي لقبائل ومجتمعات نائية ما كانت وحتى وقت قريب تحلم أو تتخيل أن أحد منسوبيها ستحط به عصا التسيار في مدينة مثل شندي.
القاعدة الطردية أنه كلما زاد عدد السكان فإن المدن تتمدد أفقياً, وذلك بالضرورة يستوجب توفير إمكانيات مادية ضخمة لمضاعفة الوسائل والوسائط والصرف عليها لتلبية الاحتياجات في مجال الخدمات الصحية والبيئية والتنظيمية والهندسية والتصدي للقضاء على فوضى الأسواق والأنشطة الطفيلية, بحسبان أن الأسواق تمثل واجهات للمدن. وبخلاف تنمية وترقية الخدمات التي أشرنا إليها فهناك استحقاقات التنمية الاجتماعية أيضاً.
ولأن الفارق وباستمرار بين الذي هو متاح من إيرادات مالية للصرف وما هو مطلوب للتنمية الخدمية والاجتماعية يفتقر إلى التوازن المتقارب, لذلك فقد ظلت الأجهزة التنفيذية عاجزة عن أداء مهامها تجاهها، وحتى ينعدل الحال فلابد من إحداث تنمية وتطوير للموارد المالية, وهو الضلع الثالث المهم لذلك فالمطلوب من أية سلطة, تتصدى لقيادة العمل التنفيذي, الاستعانة بأجهزتها التشريعية والسياسية, كل من خلال موقعه لاستكمال أضلاع مثلث مسؤولياتها المتمثل في تنمية خدمية وتنمية اجتماعية وتنمية اقتصادية، وفي حالة منطقة شندي فإن تطور الإيرادات المالية لن يتم إلا بالخروج من الأطر النمطية والتقليدية السائدة, وذلك بارتياد الآفاق الجديدة المتمثلة في تحويل دفة العمل الاقتصادي والتخلي عن النمط الاستهلاكي المتمثل في التوسع في الأسواق ومنح التراخيص في مجال الأعمال التجارية والأنشطة الخدمية التقليدية التي تجاوزت بتمددها الأفقي السقوفات الحقيقية المطلوبة لتلك الأنشطة, وأصبح الأمر توسعاً ورمياً غير مرغوب فيه وينطوي على سلبيات وإفرازات, لذلك فإن التوسع في الأنشطة الاستهلاكية لا يجبذه الاقتصاديون مقارنة بالاستثمار في المجالات الإنتاجية التي تمثل الجانب الإيجابي في الأداء الاقتصادي، خاصة وأن منطقة شندي تتمتع بإمكانات هائلة في مجال الإنتاج الزراعي والحيواني بحسبان أنها تقع في الحزام الخالي من أمراض الحيوان.
من نعم الله على شندي أن موقعها الجغرافي متميز للغاية, فهي تقاطع لطرق تربطها بالعاصمة من الناحية الجنوبية وبميناء بورتسودان ومدن الشرق القضارف, حلفا الجديدة وكسلا، كما ترتبط بمدن الشمال الدامر، عطبرة، بربر، كريمة ودنقلا. وكان الأقدمون يطلقون على شندي (دار الأبوب) لأنها تنفتح على تلك الجهات، بل كان يعبرها الحجيج الوافد من غرب أفريقيا المتجه لسواكن في طريقه لميناء جدة بأرض الحجاز.
مما تقدم وبناء على المعطيات المتاحة, فإننا نقدر أن ما يصلح الاستثمار فيه في مجال المشاريع الإنتاجية بأحجام صغيرة ومتوسطة وكبيرة (حسب مقدرات المستثمرين المالية) يندرج في الذي يأتي ذكره أدناه كحزمة تمثل خطوة أولى على طريق التنمية الإنتاجية, من ذلك وعلى سبيل المثال:
مزارع الألبان، مزارع الدواجن اللاحمة والبياضة، مزارع تربية الأنعام للحوم، استزراع السمك، إنشاء مناحل للعسل، بالإضافة إلى التوسع في زراعة الفواكه والخضر للصادر، كما يمكن التوسع في زراعة الطماطم والبطاطس والترويج لإنشاء مزيد من مخازن التبريد للبطاطس وخلافها، والأمر على هذا النحو ستنشأ حتماً صناعات تحويلية كخطوة لازمة مثل قيام مصانع للصلصة ومصانع لتجهيز شرائح البطاطس (شبس) ومصانع لإنتاج الجبنة, مع إمكانية قيام مصانع لتجفيف البصل, وفي البال إمكانية تصدير الخضر والفاكهة بانتهاج أساليب التعبئة الحديثة التي تجعل منافستها لغيرها في الأسواق الأوروبية والعربية أمرا يمكن المراهنة عليه.
وبتحويلنا لدفة العمل الاقتصادي على نحو ما جاء ذكره فإن ذلك سيقود إلى نتائج إيجابية, حيث سترتفع إيرادات الموارد المالية لمحلية شندي من خلال الرسوم والدعم, بالإضافة إلى ما يلي المحلية من نسبة الضرائب، وهذا يقود إلى التنمية المطلوبة في جانب الخدمات والتنمية الاجتماعية أيضاً, وستحدث تبعاً لذلك نقلة نوعية لمدينة شندي طالما توفرت الإيرادات المالية القادرة على تلبية المطلوبات التي تقع على كاهل السلطة التنفيذية، خلاف ذلك ستتوفر فرص عمالة حقيقية لمهنيين وموظفين ولجيوش من العاطلين كشغيلة, وبالتالي يرتفع دخل الأفراد بالمنطقة وستنداح لتشمل قطاعات النقل والترحيل والحمالين وخلافهم من شرائح، وبذلك سيحدث حراك اقتصادي هائل, وستتوفر كتلة نقدية ضخمة من عائد تسويق المنتجات, وهذا وذاك سيقود إلى تطور حتمي في مجالات استثمارات في جوانب أخرى كالسياحة مثلاً لما تتمتع به شندي من آثار سياحية جاذبة كما هو معروف (النقعة والمصورات والبجراوية)، مع إمكانية الاستثمار في مجالات أخرى كصناعة السيراميك ومواد البناء وإنتاج ألوان الطلاء من الجبال المحيطة, خاصة في قرية جبل أم علي، هذا عدا إمكانية الاستثمار في مجال التعدين. وهنا نحب أن نذكر فقط أن منطقة البجراوية بالقرب من شندي كانت أول منطقة تم فيها صهر الحديد في العالم كما يقول التاريخ، وقد أطلق عليها المحدثون (برمنجهام أفريقيا).
ولكي يحدث كل ذلك, لابد من تجهيز دراسات جدوى اقتصادية من بيوت خبرة لعرضها على كل من يملك الرغبة في الاستثمار في المجالات الإنتاجية المذكورة أو تعديل توجهات ورغبات المتقدمين الجدد لولوج الحقل التجاري وجذبهم ليتحولوا نحو القطاع الإنتاجي, حسب ما تنص عليه دراسات الجدوى والمؤشرات الربحية التي يمكن الحصول عليها من خلال تلك الدراسات للصغير من المشاريع أو الكبير، وفي نفس الوقت إيقاف تصديقات تراخيص جديدة في المجال التجاري لمدة يتم تحديدها, وبتقديري لن تقل عن ثمان سنوات.
وإذا كان ما تم طرحه يجد القبول, فربما يقود ذلك إلى وضع هذه الأفكار في شكل إستراتيجية وفلسفة اقتصادية لمحلية شندي, وربما يستدعي الأمر, كتطور حتمي, قيام محفظة بنكية في وقت لاحق لدعم المستثمرين (تمويلاً) في المجالات المنصوص عليها في الإستراتيجية لرفع قدراتهم الإنتاجية.
ونختم حديثنا بأن التفاصيل قد لا يسمح الحيز المتاح بطرحها في هذه العجالة, لكن ما نؤكده هو أن التحول يحتاج إلى خيال, وإلى تخطيط , وإلى إدارة وعزيمة, وبدون ذلك, فلن يحدث التغيير الراديكالي والتطور ومن ثم لن يتم تحقيق الغايات المنشودة, بل سينحدر الوضع نحو الأسوأ في مجال ترقية الخدمات والتنمية الاجتماعية.
بهذا اكتفى والله المستعان
عبد الوهاب الصافي الجعلي
شندي- السوق