الايمان بوحدة النوع الانساني :
تنطلق الرّسالة الاسلامية في تعاملها مع كافة أفراد النوع الانساني من نظرة واقعيّة تكوينيّة ، تقوم على أساس الايمان بوحدة النوع الانساني . . . وبأنّ الناس جميعاً ينتمون إلى أصل بشري واحد . . . ويشتركون في حقيقة واحدة . . . وهي الانسانيّة ، وهم جميعاً متساوون في تكوينهم وطبيعتهم ، كبشر يعيشون في هذه الحياة ، ويشتركون في المشاعر والميول ، والقابليّات والاحتياجات الاساسيّة الفطريّة . . .
وانطلاقاً من هذه المسلمات الفكريّة رفض الاسلام الفوارق والحدود التي وضعها الانسان ، واستوحاها من مفاهيم الجاهلية التي تعكس روح الانانيّة والجهل والاستعلاء البشري . . .
ولذلك أيضاً أعلن القرآن الحرب على هذه المُخلّفات والمفاهيم الجاهليّة . . . ورفع شعار وحدة النوع الانساني والمناداة بها ، فقال :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلناكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ إنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ) .(الحجرات/13)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْس وَاحِدَة وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ، وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالاَرْحَامَ إنَّ الله كَانَ عَليْكُمْ رَقِيباً) .(النساء/1)
ولقد أكّد نبيّ الانسانية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المبادئ السامية ونادى بها يوم القى خطابه التاريخي الخالد بعد حجّة الوداع ، فقال : ((أيّها الناس ان ربّكم واحد ، وانّ أباكم واحد . . . كلّكم لآدم ، وآدم من تراب «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقاكُمْ» وليس لعربيّ على أعجمي فضلٌ إلا بالتّقوى))(3) .
وعلى أساس هذه المبادئ السامية حدّد الاسلام مقاييسه الواقعية في التفضيل والتقويم فثبت مقياس التفاضل والتقويم الانساني على أسس من الدقّة والحساب العلمي السليم الذي يقود البشريّة نحو الرّقي والتّكامل ، ويفجر فيها دوافع الخير والابداع ، فحصر أسباب التفضيل عند الله في :
أ ـ الايمان والتّقوى
ثبت الاسلام هذه القاعدة كأساس للمفاضلة والتقويم ، لانها منبع لعطاء الخير ، وسبب لتكامل شخصية الانسان ، ومنطلق لتصحيح مساره في الحياة .
( . . . إنَّ أكرَمَكُمْ عندَ الله أتْقاكُمْ . . .).(الحجرات/13)
((وليس لعربيٍّ على أعجميٍّ فضلٌ إلاّ بالتقوى)).
ب ـ العلم :
أما المقياس الثاني من مقاييس المفاضلة في الاسلام ، فهو مقياس العلم .
قال تعالى : ( . . . يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَات . .) .(المجادلة/11)
( . . . قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاَلْبَابِ) .(الزمر/9)
جـ ـ الجهاد والتّضحية في سبيل الله والدفاع عن الحق والخير الذي بشر به النبيّون . . .
قال تعالى(فضل الله المُجاهدين بأموالهم وأنفسُهم على القاعدين درجةّ وكُلاّ وعد الله الحُسنى، وفضّل الله المُجاهدين على القاعدين أجراً عضيماً).(النساء/95)
وهكذا ثبت الاسلام معاييره ومقاييسه العقائدية للتقويم والمفاضلة لئلاّ يكون المُحسن والمُسيء بمنزلة سواء ، وليبعث في كل إنسان دوافع الخير ومحفزات العطاء الانساني النبيل .
فمبادئ الاسلام هذه ، مبادئ إنسانية مقدورة للجميع ، . . . وبإمكان كل فرد أن يتسامى نحوها، وهي في الوقت ذاته ، تستطيع أن تكون مقياساً حقيقياً يعبر عن ذات الانسان ، ويقوّم جهده وإنسانيّته؛ بعكس المقاييس الوضعيّة الجاهلية . . . كمقاييس الجنس والطبقة ، والمال ، أو الحزب ، والقوّة ، والقرابة . . . الخ . فهي لا تعبّر بأيّ حال من الاحوال عن روح الانسانيّة الخيّرة الكامنة في ذات الفرد ، ولا تساعده على التحفّز والحركة نحو فعل الخير والعطاء الانساني المتصاعد ، بل على العكس من ذلك . . . فانها تقتل في الفرد روح الخير والابداع ، وتقمع روح الاحساس في الانسان بإنسانيّته ، وبقيمته الاجتماعيّة ، وبقدرته على التفوّق والنّمو الاجتماعي . . . لانها مقاييس تخضع في تقويمها لقضايا قسريّة ، ليس لارادة الانسان ، ولا لانسانيّته ، أو امكاناته وقابليّاته الذّاتية دخل فيها . . . وبذا تعمل على سد أبواب التفوّق الاجتماعي ، وتقتل روح الاحساس بالمساواة ، وتثير روح الحقد والنّزاع في صفوف المجتمع .