الموازنة والاعتدال :
تختلف نظرة الاسلام وفهمه للنّشاطات والمواقف الانسانية ، وتعامله مع الاشياء والموضوعات الماديّة ، عن فهم وتقويم وتعامل النظريّات والمذاهب الاجتماعيّة المختلفة ، كالشيوعية والرأسمالية والاشتراكيّة . . . الخ ، كما تفترق نظرته عن باقي الفلسفات ، ونظريّات الاخلاق ، وعلم النفس ، والاجتماع المتمثّلة في الاتجاهات والمدارس المتعدّدة والمفاهيم الحضارية ، والنّظريّات التّفسيريّة الّتي دفعت بالفرد والمجتمع إلى حالة من الاضطراب واختلال التوازن النّفسي والسّلوكي ، بسبب ما قدّمته من تفسير لمفهوم اللّذة والالم . . . وتقويم السلوك والحرّية ، فانعكس هذا التّفسير على أوضاع الانسان السياسيّة والاقتصاديّة والسّلوكية ، الفرديّة والاجتماعية . . . وصار الافراط والتفّريط ، والاسراف والعبث ، ظاهرة حضاريّة مُدمّرة ، تعبث بصحّة الانسان الجسديّة والنّفسيّة ، وتعصف بالثّروة ونظام المجتمع واستقرار الحياة . . . فلا شيء يخضع في سلوك هذا الانسان المادي إلى مقياس ، أو يوضع في ميزان قيمي أو سلوكي . . . بعد أن جعل الّلذة غاية ، والحرّية غير الملتزمة أساساً ومنطلقاً للسّلوك البشري . . . للتعبير عن محتوى الذّات ، والبحث عن الّلذة بشتّى صورها ووسائل تحصيلها . . . فضاعت مع هذا الفهم والتفّسير كلّ القيم والمقاييس المنظّمة للسّلوك الانساني . . . واضطربت معادلات الحياة . . . وسادت المجتمع حالة من الفوضى والاضطراب ، بشكل جعل من سلوك الانسان ونزعاته كماً مهملاً... لا يخضع إلى قياس . . . ولا يقف في كفّة ميزان ، فانتجت هذه الحضارة الماديّة إنساناً عابثاً مختلّ التّوازن ، ذا شخصيّة شهوانيّة هلعة . . . وبشكل يسمح للدارس والمؤرخ أن يسمي الحضارة الماديّة المعاصرة : (حضارة العبث والضياع) . . .
فالانسان في هذه الحضارة يمارس شتى أنماط النشاط والحياة بعيداً عن قواعد الاعتدال والاستقامة . . . سواء في ممارسته للنشاط الغريزي والسلوك الاجتماعي . . . كتناول الطعام والشراب ، وممارسة الجنس والمتع والّلذات وجمع الثروة والمال واستعمال السلطة . . . الخ ، أو في التّعبير عن انفعالاته وأحاسيسه . . . كالحب والغضب ، والرضى والسّخط والكراهيّة . . . فهو في كل هذه الممارسات تحوّل إلى إنسان عابث ، مختل التوازن ، بعد أن ماتت في أعماقه ملكة الاستقامة النفسيّة ، وغابت عن دنياه ضوابط الاخلاق والقيم الروحية .
أما الاسلام . . . فلكي ينقذ الانسان من مثل هذا التيّار المادي الهلع . . . راح يخضع السلوك والنوازع والاتّجاهات النفسيّة والعلاقات الاجتماعيّة لقاعدة الضبط والتنظيم الكوني العام . . .
فالاسلام يدخل كل سلوك الانسان وعلاقاته في معادلات حسابيّة موزونة . . . تعتمد على بناء نفسي وأخلاقي محكم ، كما تعتمد على الضّبط القانوني ، والتّوجيه الاجتماعي ، المتمثّل في العرف والرأي العام الاسلامي .
وقد جاءت الآيات القرآنية والمفاهيم والنصوص الاسلامية العديدة تؤكّد على هذا المبدأ ، وتصوغ منه قانوناً وقاعدة للحياة : (قاعدة الضبط والموازنة والاعتدال) .
ولعل أدق ما ورد في هذا الموضوع ، هو الخطاب الالـهي الموجه لقدوة البشريّة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ، والذي نصّه : (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .(هود/112)
وفي موارد قرآنية أخرى ، نجد وصفاً دقيقاً ، وتحديداً واضحاً لهذا المبدأ الاساسي ، في أحكام الشريعة وقيمها ، . . . نذكر منها على سبيل المثال قوله تعالى ، وهو يتحدّث عن سلوك الشخصيّة الاسلاميّة وكيفية تعاملها مع المال والثروة والاشياء ـ انفاقاً واستهلاكاً ـ نذكر قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) .(الفرقان/67)
(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً محْسُوراً) .
(الاسراء/29)
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) .(الاعراف/31)
ولم يتوقف توجيه القرآن نحو الاعتدال والتخلص من الاسراف والعبث عند حد التّعامل مع الاشياء الماديّة بل وشمل توجيهه الحالات النفسيّة والانفعاليّة عند الانسان . . . لتنظيم الانفعال ، وضبط موازنة التحرّك النفسي ، كقوله تعالى :
(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فعاقبوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للِصَّابِريِنَ) .(النحل/126)
(ِلكَيْلاَ تَأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال َخُور).(الحديد/23)
(وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَليِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً) .(الاسراء/33)
وهكذا ، والامثلة كثيرة على الدعوة إلى الاعتدال والتوازن تشاهد في الكتاب والسنّة وفي الدراسات الاخلاقية والسّلوكية والتشريعيّة التي أقامها المسلمون حول قواعد الاسلام وأصوله .
ولقد تجلّت ظاهرة الاعتدال والتوازن في كل تشريع ومفهوم في الاسلام . . . تجلّت في الموازنة بين شؤون الحياة الدنيا والآخرة ، كما جاء في قوله تعالى : (وَابْتَغِ فِيَما آتَاكَ اللهُ الدّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَك مِنَ الدُّنْيَا وأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ . . .) .(القصص/77)
وتجلت في الموازنة بين النزعة الفرديّة والاجتماعية لتحقيق التوازن بين مصالح الفرد والجماعة للقضاء على الانانيّة الفرديّة من جهة ولحماية حرية الفرد وارادته الفردية من جهة أخرى ، وتجلّت في الموازنة بين الحقوق والواجبات للفرد والدولة والمجتمع ، . . . وفي الموازنة بين اتّجاه الجنسين : الرجل والمرأة . . . الخ .
ولا يخفى على أحد ما لقاعدة الاعتدال والتّوازن من أثر على اقرار نظام الحياة وتوجيه امكانيّة الانسان والطبيعة لصالح الانسانية وخيرها .