التفرّد بالرأي :
إن أبرز مظاهر الأنانية في العمل الجماعي التي تعيق نجاح الجهد الجمعي هو الرغبة العارمة في الاستحواذ على الأعمال والمصالح والمنافع ومجالات الظهور الاجتماعي ، والعمل على إلغاء الآخرين ، أو تحجيم حركتهم ، واعتبار من يعمل معه خطراً عليه ، وليس مكملاً لجهده ونشاطه .
ومن مظاهر الأنانية الخطرة في العمل الجمعي ، هو فرض الرأي الفردي على الآخرين ، ومصادرة آرائهم ، انطلاقاً من فهم خاطئ لنفسه ورأيه ، فيسوقه هذا الفهم إلى عدم احترام الرأي الآخر ، واقناع نفسه بأنّ الآخرين ليس بوسعهم أن يفكّروا ، أو يخططوا ، أو يرتقوا إلى مستوى تفكيره .. بينما الموقف الصواب في العمل الجماعي هو التكامل في الجهود الفكرية والمادّية والأدبية ، وفسح المجال أمام الطاقات والآراء لتأخذ طريقها ، ولتوظف كلّ الطاقات والآراء في مجالها البنّاء .. وعندما تتشرنق هذه العناصر حول نفسها تتحوّل إلى مشكلة داخل النشاط الجمعي ، فتنتهي بالعمل إلى الإعاقة ، أو التمزيق والانشطار أو الانحلال .
ويزداد الخطر عندما يتحوّل المشروع الخدمي والمؤسّسة الخيرية والعمل ذو الأهداف الاجتماعية إلى مشروع نفعي ، ومغنم يتنازع على الاستحواذ عليه . واستخدامه أداة للبروز الاجتماعي، وتحقيق المكاسب المادّية النفعية ..
والتحوّل من الهدف الخيري والإصلاحي العام إلى الهدف النفعي ، هو من أبرز مظاهر الهدم والتخريب . والممارس لهذا العمل هو عنصر هدّام ومخرّب .
انّه يمارس هدم الأهداف العامّة ، ويحولها إلى أهداف ومنافع شخصية ، إنّ الأنا الفردي عالم قائم بذاته .. أحاسيسه ومشاعره ، لذّاته وآلامه ، أفراحه وأتراحه .. حبّه وبغضه ، مصالحه ومضارّه .. يتحرّك الأنا وكأ نّه وحيد في عالم الموجودات ، لا شيء غيره ، بل لا يريد أن يرى أحداً ينافسه في شيء ، بل ويسعى إلى أن لا يشاركه أحد .. لو استطاع أن يقبض على الأرض وما حَوَت ، والفضاء وما اشتمل عليه لفعل ..
الأنانية استغراق مرضي في حبّ الذات .. يعبر الإنسان المصاب بمرض الأنا (الأنانية) عن هذا الشعور بطرق شتّى ، وبأنماط متعددة من السلوك ، كالاستئثار بالمال وكالحسد والحقد وحرمان الآخرين ، ووضع العقبات أمامهم ، لئلاّ يتقدّموا في الحياة .. وكم تركز اهتمام الدراسات النفسية على هذه الظاهرة الخطيرة ، وأثرها الهدّام في السلوك ..
الإنسان الأناني يمثِّل حالة مرضية في الحياة الاجتماعية .. ولذا عملت التربية الإسلامية على تحرير الإنسان من الأنانية ، عبادة الذات ، وتصحيح سلوكه على أساس توازن العلاقة بين الأنا وذات الآخرين ; لتتوازن الحياة الاجتماعية .. وكم هو دقيق القانون الأخلاقي الذي ثبّته الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كأساس لبناء السلوك .. في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا يؤمن أحدكم حتّى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» .
إنّ هذا القانون الأخلاقي يقوم على أساس عقيدي وإيماني .. فالإيمان في حقيقته كما يوضِّحه الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) فكراً يتجسّد سلوكاً اجتماعياً في حياة الإنسان ، وليس الإيمان عقيدة نظرية ومسلمات تجريدية فكرية . فالإيمان الحقيقي لا يتحقّق في حياة الإنسان إلاّ إذا أحب للآخرين ما يحب لنفسه ، وكره لهم ما يكره لها ، عندئذ يتحرّر من الأنا وعبادة الذات ، ويفكِّر في مصلحة الجماعة ، ويندمج معها ، وتتوازن في نفسه وعقيدته وسلوكه مصلحة الذات مع مصلحة الآخرين .. ولا تقف التربية الإسلامية والسلوكية الإيمانية إلى حدّ الموازنة بين مصالح الذات ومصالح الآخرين .
بل وتتسامى الدعوة الأخلاقية في الإسلام إلى أن تربِّي الإنسان على الإيثار .
والإيثار هو تقديم الغير على النفس ، وإلى هذه السلوكية دعا القرآن الكريم بقوله : «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة» .
وكم أثنى القرآن على الإمام علي وأهل بيته (عليهم السلام) عندما تصدّقوا بطعامهم على اليتيم والمسكين والأسير ، وظلوا هم من غير طعام ، مع حاجتهم إليه .
جاء ذلك في قوله تعالى :
(ويُطعمونَ الطّعامَ على حُبِّهِ مِسْكيناً ويَتيماً وأسيراً * إنّما نُطعِمُكُم لِوَجْهِ اللهِ لا نُريدُ مِنكُم جَزاء ولا شكوراً ). ( الإنسان / 8 ـ 9 )
ولأهمّية الإيثار في السلوكية الإسلامية نرى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يحذِّر الناس من الأثرة والاستيثار من بعده فيقول : «سيكون بعدي أثرة» .