نظرة القدماء للتماسك
د. صبحي إبراهيم الفقي
القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين ونزل معجزاً في جوانبه كلها. ومن هذه الجوانب إعجازه اللغوي، ولهذا فقد حار العرب في أمره "إذ لا يرون في آدابهم له نظيراً، ولا يرون أنفسهم قادرين على تقليده، وذلك لسمو أسلوبه، وجمال نسجه، وما اشتمل عليه من تشريع وإخبار بالغيب...
"إن حسن النسق من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم، كما أن انسجام الشعر من جوانب جماله. وقد لاحظ القدماء هذا الجانب المعجز في القرآن الكريم، وحاولوا دراسته كل بما يناسب تفسيره.
والقرآن الكريم، لشدة تماسكه، عُدَّ كالكلمة الواحدة، على الرغم من أن "كل سورة من سور القرآن ذات شخصية متفردة، وذات ملامح متميزة، وذات منهج خاص، وذات أسلوب معين، وذات مجال متخصص في علاج هذا الموضوع الواحد، وهذه القضية الكبيرة. ومع ذلك فإنها _السور المكية خاصة _ تجتمع على الموضوع والغاية، ثم تأخذ بعد ذلك سماتها المستقلة، وطرائقها المتميزة ومجالها المتخصص في علاج هذا الموضوع، وتحقيق هذه الغاية".
ووحدة الموضوع من بين جوانب التماسك في القرآن المكي؛ فإذا كانت السورة المدنية تركز على موضوع التشريع، فإن السور المكية تركز على "حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، وحقيقة العلاقات بينهما، وتعريف الناس بربهم الحق الذي ينبغي أن يدينوا له ويعبدوه، ويتبعوا أمره وشرعه، وتنحية كل ما دخل على العقيدة الفطرية الصحيحة من غبش ودخل وانحراف والتواء، ورد الناس إلى إلههم الحق الذي يستحق الدينونة لربوبيته".
ويقول الجرجاني في نص طويل، وهو يفرق بين نظم الحروف في الكلمة، ونظم الكلمات في النص، إن الثاني يقتفي فيه آثار المعاني، وترتبها في الكلام حسب ترتيبها _أي المعاني _ في النفس، فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، نظيراً للنسيج والتأليف... والبناء وما أشبه ذلك مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض. والفائدة في معرفة هذا الفرق أنك إذا عرفته عرفت أن ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها...
واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك، علمت علماً، لا يعترضه شك، أن لا نظم في الكلم، ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك... وننظر إلى التعليق فيها والبناء وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها ما معناه وما محصوله.
فأشار هنا إلى أهمية التماسك الدلالي، والتماسك بين أجزاء النص، وإلى التعالق، وإلى علاقة السببية، وهي من علاقات التماسك النصي.
ويشرح، في نص آخر، معنى التماسك بصورة تكاد تكون أوضح من شرحها في العصر الحديث، فيقول: "واعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر، ويغمض المسلك في توخي المعاني... أن تتحد أجزاء الكلام، ويدخل بعضها في بعض، ويشتد ارتباط ثان فيها بأول، وأن يحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعاً واحداً، وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه ها هنا في حال ما يضع بيساره هناك، نعم وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين... واعلم أن من الكلام ... سبيله في ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لألٍ فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق...
وقد ركَّز علماء النص على أهمية الجملة الأولى في التحليل النصي، وعلاقة الجمل التالية كلها بهذه الجملة. وبالقياس نجد الرازي (ت 328ه) يذكر أهمية سورة الفاتحة بالنسبة لما يليها، فيقول: "... هذه السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل والمعدن، وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه، فقوله: (رب العالمين) تنبيه على أن كل موجود سواه فإنه دليل على إلهيته.
وقد لاحظ السيوطي هذا الأصل بالنسبة لسورة الفاتحة وعلاقة القرآن الكريم كله بها، فقد ذكر السيوطي (ت 911ه) أن من أسباب بداية السور المكية بالأنعام، وذلك بعد الفاتحة بالطبع، أن كل ربع أي 25% من القرآن تبدأ بالحمد؛ "فالفاتحة تبدأ بالحمد، والأنعام بالحمد، والكهف للربع الثالث، وسبأ وفاطر للربع الرابع".
وهذه نظرة فاحصة لقضية التماسك بين سور القرآن قاطبة، والمكية خاصة، فهذه السور التي تبدأ بالحمد كلها مكية، وهذه النظرة تمثل نظرة كلية للنص القرآني باعتباره وحدة متكاملة.
وقد فصل الرازي علاقة سورة الفاتحة بكل من الأنعام والكهف وسبأ وفاطر، من منطلق بداية كل منها بـ (الحمدُ لله).
وهذه الروابط التي تظهر بدقة النظر، وطول التفكر والتأمل، هي روابط تماسكية دلالية. وكذلك فيها مراعاة للتناسب بين الآيات. وهذا يحتاج كما جاء في الترجمة للإمام الرازي في مقدمة الكتاب _ "إلى عقلية تتميز بسعة الأفق، إذ إنه يخدم معنى الآية، لأنه يربط الآية بما سبقها من الآيات... وقد برع الرازي في ربط الآيات السابقة بالآيات اللاحقة".
وهذا الربط هو ما يعنيه التماسك، سواء أكان شكلياً أم كان دلالياً. وهذا يمثل أيضاً إدراكاً واعياً لدى المفسرين لقضية التماسك النصي.
وإذا كان الرازي والسيوطي نموذجين _على سبيل المثال لا الحصر _ لتحليل النص القرآني من ناحية إبراز التماسك النصي. وإذا كان الجرجاني ممثلاً للبلاغيين في هذه القضية. فإن الأمر بالنسبة للغويين يختلف إلى حد كبير، إذ إنهم يركزون تركيزاً شديداُ على التماسك على مستوى الجملة فقط، وهذا في الغالب، فقد ركزوا، في قضية الإسناد، على الابتداء والفاعلية وغيرهما مما يتعلق بالجملة. وعلى ضرورة وجود الرابط في جملة الصلة والخبر الجملة. وهذا نوع من التأكيد على ضرورة التماسك، لكن على مستوى الجملة فقط.
وتحدث سيبويه من قبل عن أهمية وجود الضمير الذي يحيل على السابق، وإلا يصبح الكلام غير حسن.
ومن الجوانب التي أكدها التحليل النصي حين معالجة التماسك الدلالي، قضية التفاعل Interaction بين المنتج والمتلقي والنص. وكذا وجدنا هذه اللمحات عند علماء العربية؛ فيتحدث المبرد مثلاً عن الابتداء: "نحو قولك: زيد، فإذا ذكرته فإنما تذكره للسامع، ليتوقع ما تخبره به عنه، فإذا قلت (منطلق) أو ما اشبهه، صح معنى الكلام، وكانت الفائدة للسامع في الخبر؛ لأنه قد كان يعرف زيداً كما تعرفه، ولولا ذلك لم تقل له زيد، ولكنت قائلا له: رجل يقال له زيد، فلما كان يعرف زيداً، ويجهل ما تخبره عنه _أفدته الخبر، فصح الكلام...
فالمنتج هنا راعي حال المتلقي من حيث العلم بالموضوع أو الجهل به. وفيه إشارة إلى أن الكلام لم يكن إلا للسامع. وقوله "لأنه قد كان يعرف زيداً كما تعرفه" ذكر للسياق المحيط من حيث معرفة زيد لدى كل من المنتج والمتلقي. والنص نفسه، أو الكلام يعدل حسب معرفة المتلقي من جهله.
وتحدث أيضاً كثيراً عن دور المخاطب في إنتاج الكلام؛ فيقول: "إنما تحذف إذا علم المخاطب ما تعني".
ومن هذه اللمحات الموجزة تأكد لنا إدراك البلاغيين والمفسرين واللغويين لكثير من الجوانب المرتبطة بالتماسك النصي، شكلياً ودلالياً. غير أن هذا لم ينته إلى صورة نظرية متكاملة مثل نظرية النحو المتصلة بالجملة. وهذا يدعونا لتطوير النظر إلى اللغة من زاوية اعتبار أن النص الوحدة اللغوية الكبرى، ويدعونا لمحاولة وضع نحو يمكن من خلاله معالجة النص ككل.
---------------------------------
علم الغة النصي بين النظرية والتطبيق /ج1