عامة الناس ، ولكنه سيتزوج نعمة بنت الحاج إبراهيم ، وناهيك بهذا دليلا على كرم الأصل ، والفضل ، والجاه والحسب ، ستدخل ذلك البيت الكبير المبني من الطوب الأحمر ( فليس كل بيوت البلد من الطوب الأحمر ) ، تدخل مرفوعة الرأس ثابتة الخطوة . سيقومون لها إذا دخلت ، ويوصلونها للباب إذا خرجت ويعودونها كل يوم إذا مرضت . ستقضي الأيام الباقية في حياتها في فراش وثير من الرعاية والحب . ولعل القدر يمهلها فتحمل حفيدها أو حفيدتها في حضنها . تزغرد أم الزين ، وتتوارد هذه الخواطر في ذهنها فتشتد زغاريدها .
وزغرد معها جيرانها وأحبائها ، وأهلها وعشيرتها . لكن كيف حدثت المعجزة ؟
اختلفت الأقاويل ، قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة ، وكأنها تغيظها بمزيد من أنباء عرس الزين ، أن نعمة رأت الحنين في منامها فقال لها " عرسي الزين . التعرس الزين ما بتندم " . وأصبحت الفتاة فحدثت أباها وأمها ، فأجمعوا على الأمر ، وهزت آمنة رأسها وقالت : " كلام " وزعم الطريفي لزملائه في المدرسة أن نعمة وجدت الزين في حشد من النساء . يغازلهن ويعبثن به . فحدجتهن بنظرة صارمة وقالت لهن . " باكر كلكن تأكلن وتشربن في عرسه " . وخرجت من وقتها فقالت لأبيها وأمها ، فوافقا على ذلك .
وروى عبد الصمد للناس في السوق . أن الزين هو الذي طلب الزواج من نعمة . وأنه صادفها في الطريق فقال لها : " بت عمر " تعرسيني ؟ " فقالت نعم . وأنه هو الذي ذهب إلى عمه وكلمه في الأمر فقبل الرجل إلا أن المرجح أن الذي حدث غير هذا ، وأن نعمة بما فيها من عناد .
واستقلال في الرأي ، وربما يوازع الشفقة على الزين ، أو تحت تأثير القيام بتضحية ، وهو أمر منسجم مع طبيعتها ، قررت أن تتزوج الزين ، ويرجح أن معركة عنيفة دارت في بيت حاج إبراهيم بين الأب والأم في طرف ، والبنت في الطرف الآخر . كان أخواتها غائبين فكتبوا لهم .
ويقال إن الأخوين الكبيرين رفضا البتة . وأن الأخ الأصغر قبل وقال في جوابه لأبيه : " أن نعمة كانت دائما عنيدة في رأيها . والآن وقد اختارت زوجها بنفسها فدعوها وشأنها " . خلاصة القول إن حاج إبراهيم أعلن النبأ فجأة . وكأن الناس كانوا يتوقعونه بعد حادث الحنين . الغريب أن أحدا لم يضحك أو يسخر ، ولكنهم هزوا رؤوسهم وزادت حيرتهم وهم ينظرون إلى الزين - ينظرون إليه فيتضخم في نظرهم وأهلها وحبانها وعشيرتها ، وكل من يتمنى لها الخير " أيوي أيوي أيوي أيويا " .
لو أن العرس لم يكن عرسه . لميز الزين صوت كل منهن في زغاريدها . هذه بت عبد الله ، صوتها عذب وصرختها قوية من كثرة ما زغردت في أعراس الآخرين . ظلت عانسا عمرها فلم تتزوج . لكنا كانت تفرح لأفراح كل أحد في الحي .
" أجواج أجوج أجوج أجوجا " .
هذه سلامة ، كانت جميلة ، وكانت تنطق الياء هكذا وكانت مرهفة الحس ، لم يسعدها جمالها ، فتزوجت وطلقت وطلقت وتزوجت ولم تستقر مع رجل ولم تنجب أولادا ، حلوة الحديث ، مهزارة لها مع الزين قصص وحكايات ، تزغرد لأنها تحب الحياة .
" أيوي أيوي أيويا "
هذه آمنة تزغرد من شدة غيظها . ( هل تذكر آمنة وكيف أرادت البنت لابنها فقالوا لها البنت قاصر لم تصر للزواج ؟ )
" أوو .. اوو ... اووا " .
هذه عشمانة الطرشاء قلبها الأصم عربد بالحب في عرس الزين .
ثم اشتعلت شعلة من الزغاريد في دار حاج إبراهيم . قرابة مائتي صوت . انطلقت مرة واحدة فارتجت نوافذ الدار .
وتزغرد أم الزين فيرد عليها النساء ، وتسمع زغاريدهن فتزغرد من جديد .
لم تبق امرأة لم تزغرد في عرس الزين .
وماج الحي من أركانه ، وامتلأت الدور بالوافدين ، لم يبق بيت إلا أنزلوا فيه جماعة من القوم ، دار حاج إبراهيم على سعتها ، امتلأت ، ودور كل من محجوب ، وعبد الحفيظ وسعيد ، وأحمد إسماعيل ، والطاهر الرواسي وحمد ود الريس . دار الناظر ، ودار العمدة وبيت القاضي الشرعي .
وقال شيخ علي لحاج عبد الصمد : " عرس زي دا الله خلقني ما شفت زيه "
وقال حاج عبد الصمد : " على بالطلاق الزين عرس عرس صح مو كدب " .
" جرى الإمام مراسم الزواج في المسجد . ناب حاج إبراهيم عن ابنته . وناب محجوب عن الزين . ولما تم العقد . قام محجوب ، ووضع المهر على صحن ، حتى يراه كل أحد مائة جنيه ذهبا ، وهي من حر مال حاج إبراهيم . ووقف الإمام بعد ذلك ، وأدار عينيه في الرجال المجتمعين ( كانت أم الزين المرأة الوحيدة بينهم ) وقال إن الجميع يعلمون أنه عارض هذا الزواج ، أما وأن الله شاء له أن يتم فهو يسأله سبحانه وتعالى أن يجعله زواجا سعيدا مباركا . التفت الناس إلى الزين ولكنه كان مطرقا . وقال محجوب لعبد الحفيظ بصوت خافت : " ايه لزوم ذكر المعارضة والكلام الفارغ ؟" وعجبوا حين رأوا الإمام يمشي نحو الزين ويضع يده على كتفه ، فالتفت إليه الزين بشيء من الدهشة . أمسك الإمام يده وشد عليها بقوة ، وقال بصوت متأثر : " مبروك . ربنا يجعله بيت مال وعيال " . تلفت الزين حوله ببلاهة ، ولكن أحمد إسماعيل نظر إليه نظرة صارمة فطأطأ برأسه .
دمدم طبل النحاس الكبير وهدر ، يقولون أنه يتكلم . وقالت بت عبد الله لسلامة : " النحاس يقول : الزين عرس الزين عرس " . فزغردت سلامة بصوتها الحلو .
تقاطر على الحقل عرب القوز . يتسابقون على جمالهم ، فاستقبلهم الطاهر الرواسي وأنزلهم في إحدى الدور ، وأمر لهم بالطعام والشراب .
وجاء فريق الطلحة عن بكرة أبيه - على رأي المثل - فتصدى لهم أحمد إسماعيل وأنزلهم ، ربط دوابهم وجاء لها بالعلف ، ثم أمر لهم بالطعام فطعموا وشربوا .
وجاء الناس من بحري وجاء الناس من قبلي .
جاؤوا عبر النيل بالمراكب ، وجاؤوا من أطراف البلد ، بالخيول والحمير والسيارات ، فأنزلوهم زمرا زمرا . في كل بيت طائفة ، يقوم على خدمتهم أفراد العصابة ، فهذا يومهم : يعدون لكل شيء عدته لا تفوتهم صغيرة ولا كبيرة لن يمسوا طعاما . ولن يذوقوا شرابا ، حتى يأكل ويشرب الناس .
زغرودة منفردة ثم مجموعة زغاريد ، ثم طبل وحيد يهمهم ، ثم طبول كثيرة لأصواته أصداء . لوح الرجال بأيديهم وهزوا بالعصي والسيوف . وأطلق العمدة من بندقيته خمس طلقات . وقالت آمنة لسعدية : " الأمة دي إن شاء الله تقدروا تكفوها " . ولم تقل سعدية شيئا .
نحرت الإبل ، وذبحت الثيران . ووكئت قطعان من الضأن على جنوبها . كل أحد جاء أكل حتى شبع وشرب حتى أرتوى .
وكان الزين يبدو مثل الديك ، لا بل أجمل ، مثل الطاووس ، ألبسوه قفطانا من الحرير الأبيض ومنطقوه بحزام أخضر ، وعلى ذلك كله عباءة من المخمل الأزرق ، فضفاضة يملأها الهواء فكأنها شراع , وعلى رأسه عمامة كبيرة تميل قليلا إلى الإمام ، وفي يده سوط طويل من جلد التمساح . وفي اصبعه خاتم من الذهب ، يتوهج في ضوء الشمس نهارا ويلمع تحت وهج المصابيح بالليل ، له فص من الياقوت ، في هيئة رأس الثعبان ، كان منتشيا دون شرب من الضجة الكبيرة التي تضج حوله . يبتسم ويضحك يدخل ويخرج بين الناس يهز بالسوط ، ويقفز في الهواء يربت على كتف هذا ، ويجر هذا من يده ، ويحث هذا على الأكل ،