، كما كانوا يسمون أنفسهم ويسميهم الناس ، كان هو الذي ينبههم إلى أن ابن فلان تزوج ، وفلانا مات أبوه ، وفلانا عاد من السفر ( من سكان الأحياء البعيدة عن حيهم ) فيذهبون جماعة في الغالب للتهنئة أو للتعزية ، وكان أحيانا يذهب للمسجد للصلاة ويحاول ألا يقول لهم ، وكان الطاهر الرواسي أقربهم إلى الغضب وأسرعهم إلى إمساك عصاه ، أو سحب سكينة في أوقات " الزنقة " ، وكان سعيد أحسنهم في محاجبة الحكام ، يسمونه " القانون " . وكان حمد ود الريس ذا أذن حساسة لأخبار الفضائح يجمعها من أطراف البلد ، من الأحياء البعيدة . ويلقيها عليهم في أوقات معينة في مجالسهم .
وكانوا يندبونه في الغالب لمعالجة مشاكل النسوان في البلد . وكان محجوب أعمقهم وأنضجهم . كان مثل الصخرة المدفونة تحت الرمل . تصطدم بها إذا عمقت في حفرك . وكانت صلابته تظهر في الأزمات الحقيقة : حينئذ يصير " ريس المركب " ، يأمر وهم ينفذون . جاءهم مرة مفتش جديد للمركز اجتمعوا به مرة ومرتين . تحدثوا إليه ، وتناقشوا معه . ثم قرروا فيما بينهم أنه غير صالح . وبعد شهر تأزمت الأمور ، فقد قال المفتش لبعض الناس أن " عصابة محجوب " تسيطر على كل شيء في البلد : فهم أعضاء في لجنة المستشفى ، ولجان المدارس ، وهم وحدهم لجنة المشروع الزراعي ووصل إليهم أن المفتش قال : " ما فيش في البلد رجال غير الجماعة دول ؟ " لما تشاوروا في الأمر بينهم ، كانوا أميل إلى الرضوخ للمر الواقع ، وبعضهم عرض أن يستقيل من عضوية اللجان التي هو فيها ، ولكن محجوب قال : " ما في إنسان يتحرك من مكانه " ثم لم يلبث المفتش غير شهر آخر حتى نقل كيف تم ذلك ؟ لمحجوب أساليبه الخاصة . في الحالات القصوى .
كانوا يضحكون ، حين سمعوا الزين يشتم بأعلى صوته : " الراجل الباطل ، الحمار الدكر " . ووصل عندهم . فوقف برهة فوقهم. ساقاه منفرجتان ، ويداه على خصره كان نصفه الأعلى كله في الضوء ولاحظوا أن عينيه محمرتان أكثر من إحمرارهما الطبيعي قال الطاهر الرواسي : " واقف فوقنا مالك داير تشرب دمنا ؟ يا تقعد يا تغور " . وقال أحمد إسماعيل : " لازم الزين سكران الليلة " . وقال عبد الحفيظ : " اقعد خد لك نفس " . وقال حمد ود الريس : " قالوا الليلة كت في حوش العمدة . شن مشيث تكوس ؟ البث وعرسوها ، تاني شن داير ؟ " وأمسك الزين السيجاره من عبد الحفيظ وجلس صامتا وأخذ ينفخ فيها بغيظ . ضحك الطاهر الرواسي وقال له : " مو كيدي يا مرمد . عامل نفسك فنجري ومتعلهم السيجارة ماك عارف تشريها جرها لي ورا ، أي كدي .. زي كأنك تمص فيها " ونجح الزين في جذب الدخان إلى فمه فلفث منه غمامة كبيرة ، وقفت ساكنه برهة ثم ذابت في خيوط دقيقة ، بعضها نجا نحو الضوء والآخر اختلط مع سواد الليل في الجانب المظلم وجاء بدوي من عرب القوز يقصد الدكان ونص رطل شاي " . وقال أحمد إسماعيل : " العرب ديل كل قروشين مودرنها في السكر والشاي " . وهنا صاح الزين بسعيد : " خلي المره تعمل شاي مضبوط باللبن . يكون مضبوط " . ثم نادى من شباك يصل بين المتجر والدار خلفه : " اعملوا قوام شاي ثقيل باللبن للزعيم " وانتعش الزين . فقال برمح : " أنا راجل راجل في البلد دي ولا لا ؟ " فقال له الطاهر : " طبعا " . " طيب ليه الحمار الدكر ويروح لي عمي ويقول له الزين مش راجل بتاع عرس ؟ " وقال محجوب : " الداهي بقي افرنجي . وين عرفت الفصاحة دي ؟ مش راجل بتاع عرس ؟ " وقال ود الريس : " الإمام غاير منك . داير المره لي رقبته " .
فقال الزين :" بت عمي ولا لا ؟ يروح يشوف له بت عم " .
قال له محجوب بحزم : " العقد يوم الخميس الجايي : يعد دا ما فيش طرطشة ورقيص وكلام فاضي . سمعت ولا لا ؟ " .
سكت الزين :
وسأله الطاهر الرواسي : " منو القال لك ؟ " فقال الزين " هي نفسها كلمتني " .
كان محجوب ممدا رجليه على الرمل ، متكئا على ذراعيه فلما سمع هذا ، تشنج جسمه كأن أحدا قرصه ، واستوى جالسا : " هي بنفسها كلمتك ؟ "
" اي . جاتني الصباح بدري في بيتنا . وقالت لي قدام مي : يوم الخميس يعقدوا لك على . أنا و أنت نبقي راجل ومره نسكن سوا . ونعيش سوا " .
وارتفع صوت محجوب من فرط حماسته . وقال في إعجاب ليس له حد . " على باليمين مره تملأ العين طلاق . بت ما ليها أخت " . وجاء سعيد يحمل الشاي فقال له محجوب : " سمعت الكلام دا ؟ البت مشت كلمته بنفسها " . فقال سعيد : " بت عنيدة رأسها قوي ربنا يستر " صمت الباقون برهة ولكن محجوب ضرب فخذه براحة يده عدة مرات وقال هو يتلفت يمينا وشمالا بحماسة وانفعال : " يمين الزين ماش يعرس له بتا تمشيه فوق العجين ما يلخبطه " .
وشرب الزين الشاي في صخب كعادته ، يمص الشاي مصا له زئير وفجأة وضع الكوب من يده ثم ضحك وقال في سرور : " الحنين قال في قدامكن كلكم : باكر تعرس أحسن بت في البلد " . ثم انفجر بزغرودة عظيمة كزغاريد النساء في العرس ، وصاح بأعلى صوته :" أروك يا ناس الغريق يا أهل البلد ، الزين مكتول . كتلته نعمة بنت الحاج إبراهيم " وصمت بعد ذلك فلم يفه بكلمة .
ولم يلبثوا أن سمعوا صوت سيف الدين ( انتصارا آخر للإمام ) يؤذن لصلاة العشاء فسرت فيهم حركة خفيفة جدا . تنحنح محجوب وحرك أحمد إسماعيل أصابع قدمه بطريقة لا شعورية ، وتنهد عبد الحفيظ ، ومال الطاهر الرواسي إلى الوراء قليلا ، قال سعيد : " أشهد ألا ه إلا الله " وراء المؤذن بصوت خافت ، ونفخ حمد ود الريس في رمل لا وجود له من يده ولما انتهى الآذان وسمعوا صوت الإمام ينادي في صحن المسجد : " الصلاة الصلاة " قام كل واحد منهم إلى بيته ليحضر عشاءه وكما يصلي الناس جماعة في المسجد ، سيتعشون هم مجتمعين جالسين في دائرة حول صحون الطعام ، يرف عليهم ضوء المصباح الكبير المعلق في متجر سعيد . يأكلون بنهم ، شأن الرجال الذين تعرق جباههم من الجهد سحابة يومهم ، يأكلون الدجاج المحمر والملوخية بالمرق . والبامية المصنوعة في الطاجن في كل ليلة يذبح أحدهم إما شاة صغيرة وإما حملا . ويغدو عليهم أطفالهم بمزيد من الأكل ينزل الصحن مليئا وما يلبث أن يرتد فارغا هذا الوقت من الليل هو قمة يومهم : لمثل هذا تعمل زوجاتهم من طلوع الشمس إلى غروبها . يأتيهم المرق في صحون عميقة واللحم المحمر في صحون بيضاوية واسعة يأكلون الأرز وخبزا سميكا من القمح ، وفطائر رقيقة تصنع على صاجات ملساء من الحديد ، يأكلون السمك واللحم والخصار ، والبصل والفجل لا يبالون ماذا يأكلون . حينئذ تتوتر عضلاتهم ، ويصبح حديثهم حادا مبتورا ، يتحدثون وأفواههم ملأى . ويأكلون في صخب . تسمع صرير أسنانهم وهي تمضغ الطعام . وإذا شربوا قرقرت حلوقهم بالماء يتكرعون بأصوات عالية ويمصمصون بشفاههم . وحين ترتد الأواني فارغة ، يؤتى بالشاي ، فيملأون أكوابهم ، ويشعل كل واحد منهم سيجارة ، ويمد رجليه ويسترخي في جلسته . يكون الناس قد فرغوا من صلاة العشاء يتحدثون في هدوء وقناعة ولعلهم حينئذ يشعرون ذلك الشعور الدافئ المطمئن . الذي يحسه المصلون وهم يقفون صفا خلف الإمام . كتفا بكتف ينظرون إلى نقطة بعيدة غامضة تلتقي عندها صلواتهم . في هذا الوقت تخف الحدة في عيني محجوب .
وهما سارحتان في الخط الضئيل الباهت الذي ينتهي عند ضوء المصباح ويبدأ الظلام ؟ ) يعمق صمته وقتذاك ، وإذا سأله أحد أصدقائه فلا يسمع ولا يرد . هذا هو الوقت الذي يقول فيه ود الريس . فجأة جملة واحدة كأنها حجر يقع في بركة : " الله حي " ، ويميل أحمد إسماعيل برأسه قليلا ناحية النهر ، كأنه يستمع إلى صوت يأتيه من هناك . في مثل هذا الوقت أيضا يطقطق عبد الحفيظ أصابعه في صمت ، ويتنهد الطاهر الرواسي ملء صدره ويقول : " روح يا زمان وتعال يا زمان " .
هل يحسون حينئذ أنهم يزدادون قربا من تلك النقطة ؟ أم تراهم يدركون أن النقطة الغامضة الصامته في الوسط ، أمر تنتهي الحياة ولا ينتهي إليها المرء ؟
" ايوى ... ايوى ... ايوى ... ايويا " .
أول من زغردت أم الزين .
كانت فرحة لأسباب عدة . فرحة فرح الأم الغريزي لزواج ابنها . تلك مرحلة حاسمة ، وكل أم تقول لابنها : " اشتهي أن أفرح بزواجك قبل أن أموت " . وكانت أم الزين تحس أن حياتها تنحدر للغروب . ثم إن الزين كان ابنها الوحيد . بل كان كل ما أنجبت ، ولم يكن كبقية الناس فخافت أن تموت ولا يجد من يرعاه . فهذا الزواج أراح بالها ، وزواج الزين مناسبة تسترد فيها هداياها لأهل البلد في زواج أبنائهم وبناتهم . وكان الناس أحيانا يتعجبون وهم يرونها تسارع بدفع ربع الجنيه ونصف الجنيه في الأعراس ، لأية غاية ؟ " هل تظن أنها سترده في عرس الزين ؟ فكان عرس الزين مناسبة قطعت ألسنة الشامتين والزين لن يتزوج امرأة من