اعتبار الحياة الدنيا مرحلة في وجود الانسان :
ان من أهم المبادئ الاساسيّة المؤثّرة في منهج الحياة الاسلامية هو الايمان بعالم الآخرة ، وبالامتداد الابدي لحياة الانسان بعد الموت ، واستبعاد فكرة الفناء والنهاية الابديّة بالنسبة للانسان . . . ففكرة قطع الحياة الانسانية ، وانهائها بعالم التراب ، وحصرها بإطار الزمن المعاش في هذه الحياة ، هي فكرة جاهلية مادية ، تكفر بالبعث والقيامة ، وبالحساب والمسؤولية والجزاء ، وبالامتداد الخالد للحياة بعد الموت . . . تلك الفكرة التي ما برح الانسان الجاهلي والتفكير المادي يردّدها على مر العصور ، ويكرّرها قائلاً : (إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) .(المؤمنون/37)
فالانسان الجاهلي بمفاهيمه المادية لا يدخل في حسابه عالم الآخرة ، ولا يتصرف في الحياة تصرف من يؤمن بحساب ومسؤولية وخلود ، بل يحصر كل همه في هذه الحياة . . . ولا يعمل إلا من أجلها . . . فهو كالسمكة لا تحسّ بالحياة إلا تحت غطاء الماء يغمر ظهرها ، ويحدد أبعاد الحركة والسبح لها . . .
لذلك فالانسان تحت وطأة هذا التّفكير المادي لا يتوانى عن اقتراف ما يوفر له الّلذة ، أو يجلب له المتعة . . . ولو أدّى ذلك إلى الاضرار بالآخرين ، وهدم نظام الحياة ، وانهاء السعادة الانسانية . . . فإنسان هذه العقيدة غير مستعد لان يعمل الخير من أجل الخير . . . بل يعمل دوماً من أجل أن يحقق ربحاً شخصياً أنانياً في هذه الحياة . . .
وهو مع هذا التفكير لا يمكن أن يرتدع عن الاخلال بنظام الحياة ، أو يبتعد عن أن يمارس شتّى صنوف المخالفات . . . بعد أن كفر بمسؤوليته أمام خالقه وأنكر الجزاء في عالم ما بعد الحياة . . . بعكس الانسان المسلم تماماً فهو يبني كل سلوكه وعلاقته ونشاطاته ومفهومه عن الحياة على أساس من أن الحياة الدنيا مرحلة قصيرة في وجود الانسان . . . ومقدمة لعالم أبدي خالد . . . تتضاءل أمامه الحياة ، وتتصاغر إلى جانبه مغرياتها . . . إلى درجة تبدو معها تافهة رخيصة . . . لا تستأثر باهتمام هذا الانسان ، ولا تستحق استهلاك وجوده . . . لذا فهو يعمل من مبدأ الشعور بالمسؤولية ، والايمان بالجزاء الاخروي ، وعلى أساس من الاستهانة بكل ما في هذه الحياة ، وعدم التعلق بها ، أو التكالب عليها . . . وانه لمن الطبيعي جدّاً أن يعيش هذا الانسان في حالة من يقظة الضمير ومراقبة الذات ، وحبّ الخير من أجل الخير ، وينتزع نفسه من الصراع والتّهالك على مكاسب الحياة الزائفة ، ليحصر همه وجهده في عالم أسمى ، وربح أرقى ، وهو الخلود الابدي . . .
فهو يشعر دوماً : أنّه يعيش في هذه الحياة لا لشيء إلا ليصنع وجوده ، وكيفيّة حياته ، وصورة ذاته ، في عالم السعادة والابد . . .
ولم يؤكد الدين فكرة ـ بعد الايمان بالله ـ أكثر من تأكيده هذا المبدأ . . .
فالقرآن الحكيم ، والسّنة النبوّية ، نراهما في كل مناسبة يتحدّثان للانسان عن عالم الآخرة ، ويعمقان وعيه واحساسه بحقيقة الحياة وبقيمة الآخرة؛ فالقرآن يحدث الانسان ويخاطبه :
(فما أوتيتُم مِن شَيء فَمتاعُ الحياة الدُّنيا ، وما عِندَ الله خيرٌ وأبقى للذين آمنوا وعلى رَبهمْ يتوكَّلون) .(الشورى/36)
(الَّذينَ آمنوُا وَهاجَروا وجاهَدوا في سبيلِ الله بأموالِهم وأنفُسهم أَعظَمُ دَرَجَةً عِند الله وأولئك هُم الفائِزون . يُبشّرهُم رَبّهُم برَحمة منهُِ ورضوان وجنّات لهمْ فيها نَعيمٌ مُقيمٌ) .(التوبة/20ـ21)
(والَّذينَ آمنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ أولئِكَ أصحابُ الجنّةِ هم فيها خالِدون) .(البقرة/82)
(قُل بِفَضْلِ الله وبرحمَتِه ، فبذلِك فليفرحُوا هو خيرٌ ممّا يَجمَعُون) .(يونس/58)
(يَا أَيُّها النَّاسُ إنَّ وَعدَ الله حق فلا تَغرَّنكُم الحياة الدنيا ولا يغرَّنكُم بالله الغَرورُ) .(فاطر/5)
هذه هي أهم المبادئ الاساسية التي اعتمدها الاسلام في بناء الفكر والسلوك ونظام الحياة وحرص في كل موقع من مواقع الحياة أن لا تكون هذه المبادئ والمعتقدات في الاسلام مجرد أفكار نظرية يؤمن بها الانسان المسلم ، أو وصايا وارشادات تعيش وتموت في اطار الفكر والنظرية . . . بل عمل على تحويلها إلى أسُس علميّة تقام عليها كل جوانب الحياة والنشاط والسلوك .