وقوع المجاز في القرآن
د. محمد حسين الصغير
ومجاز القرآن في الذروة من البيان العربي. وقد كان إعجازه البياني مورداً متأصلاً من موارد إعجازه الكلي، وتفوقه البلاغي حقيقة ناصعة من تفوقه في الفن القولي، وقد وقف العرب عاجزين أمام حسّه المجازي، وبعده التشبيهي، ورصده الاستعاري، وتهذيبه الكنائي.
ولذلك يرى بعض البلاغيين: "إن المجاز هو علم البيان بأجمعه، وأنه أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة، لأن العبارة المجازية تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال حتى أنه ليسمح بها البخيل ويشجع الجبان".
ومن نافلة القول التوسع في بحث إمكان وقوع المجاز في القرآن دون طائل، فقد ثبت وقوعه دون أدنى شك في كوكبة متناثرة من ألفاظه تعد في القمة من الاستعمال البياني.
فقد رد عبد القاهر (ت: 471ه) القول بحمل اللفظ على ظاهره في كل من قول تعالى:
أـ (هل ينظُرونَ إلا أن يأتيَهُمُ اللهُ).
ب_ (وجاءَ رَبُّكَ).
ج_ (الرّحمنُ على العرشِ استوى).
وأوجب أن يكون مجازاً لا محالة لأن الإتيان والمجيء انتقال من مكان إلى مكان، وصفة من صفات الأجسام، وأن الاستواء إن حمل على ظاهره لم يصح إلا في جسم يشغل حيّزاً، ويأخذ مكاناً، والله عزّ وجلّ خالق الأماكن والأزمنة، ومنشىء كل ما تصح عليه الحركة والنقلة والتمكن والسكون والانفصال والاتصال والمماسة والمحاذاة.
إن ما أوّله عبد القاهر في مقارنته بين معاني هذه الآيات الظاهرة، ومعانيها الإيحائية الأخرى، قد دلّه بالنظر العقلي إلى مواطن الضرورة في القول بوقوع المجاز في القرآن، وإلا وقعنا بالتجسيد، وهذا باطل من الأساس في العقيدة، كما أننا قد نقع في لبس وحيف عظيمين لو لم نقل بالمجاز، ولنسبنا الظلم لله تعالى دون دراية. انظر إلى قوله تعالى:
(ومَن كانَ في هذهِ أعمى فَهُوَ في الآخرةِ أعمى وأَضلُّ سبيلاً).
فإن حملنا هذه الآية على ظاهرها، وهو عمى العين، فيكون المعنى من كان في الحياة الدنيا أعمى العين فهو في الآخرة أعمى العين، بل وأضل سبيلاً!!
فهناك من أنكر المجاز في القرآن، وهناك من حمل جمله من الاستعمال الحقيقي على المجاز، وكلاهما قد تجاوز القصد، وجانب الاعتدال في المذهب.
فاستعمال المجاز في القرآن نابع من الحاجة إليه في بيان محسنات القرآن البلاغية، فهو والحقيقة يتقاسمان شطري الحسن في الذائقة البيانية كما أشار الزركشي.
-----------------------------------
المصدر : مجاز القرآن