الدافع الأيديولوجي لتأسيس علم (الإعجاز القرآني)
لعله من المعروف أن القول بإعجاز النص القرآني قد مثّل مسلمة عقائدية بالنسبة للمسلمين، لم يخرج عليها إلا النزر اليسير، وأن هذا النص قد تحول إلى قابلة بالنسبة للثقافة العربية في طورها الاسلامي، لا على مستوى توليد العديد والعديد من نصوص هذه الثقافة فحسب، بل على مستوى تكوّن المعارف والعلوم أيضاً. ولعله معروف ـ أيضاً ـ ما كان لهذا النص من أثر وتأثير في إنشاء الخطاب البلاغي عند العرب، إن بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولقد كان لمسلمة الإعجاز تحديداً دور بالغ الأهمية في ربط البلاغة بهذا النص: إذ تعرضت هذه المسلمة؛ في خضم الصراع الثقافي والأيديولوجي العرقي بين المسلمين وغيرهم من أبناء المم التي غزوها، إلى التشكيك، مما دفع العديد من متكلمي المسلمين وغيرهم إلى تأليف العديد من الرسائل والكتب، لتفنيد حجج الخصم، وتأكيد سلامة هذه المسلمة وتحققها في النص القرآني.
نخلص من هذا إلى أن كلاً من النص القرآني وإعجازه قد مثّل رافداً مهماً لتشكل الخطاب البلاغي، إذ كان هذا الخطاب في جزء غير قليل منه خطاباً حول النص. وفي هذا ما يوضح لنا كثافة الدور الأيديولوجي في تشكل الخطاب البلاغي؛ إذ تشترك كل كتب إعجاز القرآن في حضور هذا الدافع فيها.
أما إذا نظرنا إلى عبدالقاهر فإننا سوف نجد أنه قد اشترك مع سواه من مؤلفي تلك الرسائل والكتب في حضور هذا الدافع على نحو واضح وجلي، ليس على مستوى تناوله لموضوع الإعجاز فحسب ـ في كتابه (دلائل الإعجاز) وفي رسالته (الشافية) ـ بل أيضاً في كتابه الأول (أسرار البلاغة). فإذا كان كل من كتابه (دلائل الإعجاز) ورسالته (الشافية: رسالة في إعجاز القرن) ينبئ على نحو مباشر عن حضور هذا الدافع، من خلال حضوره الصريح في عنوان كل منهما، فإنه يمكننا أن نجد هذا الدافع أيضاً سارياً في عمله الأول الي يقع في حيز عملنا وهو (أسرار البلاغة)، وإن كان ليس على مستوى إثبات مسلمة الإعجاز، ولكن على مستوى تنقية العقيدة والحفاظ عليها مما قد يشوبها من تصورات توقع في العديد من المحاذير التي تهددها وتفتح أبواباً لتشكيكات الخصوم.
باختصار يمكننا أن نقول إن ثمة حضوراً لمستوى أيديولوجي داخل نص عبدالقاهر ينبغي الكشف عنه ورصده في تجلياته المختلفة، الصريح منها والضمني، إذ يمثل هذا المستوى مكوّناً أساساً من مكونات نصه، إلا أنه ينبغي التنبه إلى أنه لا ينفرد وحده بالعمل.
فإذا كان هذا المستوى يمثل دافعاً وهدفاً في آن؛ فنيغبي التنبه أيضاً إلى أنه ليس الدافع والهدف الوحيد لمشروع عبدالقاهر. كما ينبغي أن ننتبه أيضاً ـ في عملنا هذا ـ إلى ما يمكن أن ينجرّ عن تحكيم هذا المستوى وحده في معاينة نص عبدالقاهر. إذ إن ذلك سيعني أننا لن نقرأ المكونات الأخرى من هذا النص غلا عبر وساطة هذا المستوى، وفي هذه الحالة لن يكون عملنا إلا عملية إرجاع بسيطة، لا تخلو هي ذاتها من أيديولوجيا عن الكيفية التي تتشكل بها المعرفة وتتحرك.
فلا شك أن كلاً من الدافع والهدف الأيديولوجي قد صاحب الأعمال السابقة على مشروع عبدالقاهر للبرهنة على إعجاز القرآن، فهل يمكننا بناء على ذلك أن نطابق بين عمله وعمل الآخرين وفق هذا الاتفاق في الدافع والهدف؟
بطبيعة الحال إن الجواب هو (لا) إذ إن صور البرهان في التدليل على إعجاز القرآن قد اختلفت اختلافاً جلياً داخل تلك الأعمال، ومن ثم فإن تبين وتحديد هذه الصورة، أي صورة البرهان، والكيفية التي يؤسس بها عبدالقاهر هذا البرهان هو ما ينبغي أن نرصده. ولعله من المهم في هذا السياق أن نشير ـ بداية ـ إلى أن كتاب (أسرار البلاغة) ـ على الأرجح ـ سابق لكتاب (دلائل الإعجاز)، على العكس مما قد صرح به المستشرق ريتر في تحقيقه لهذا الكتاب من أن (دلائل الإعجاز) هو الكتاب الأول، وأن (أسرار البلاغة) هو الكتاب الثاني، وتبعه فيه كثيرون.
إن لهذه الإشارة أهميتها من حيث تكشف لنا عن أن مشروع عبدالقاهر منذ بدايته لم يكن متوجهاً مباشرة إلى هدف عقائدي، بقدر ما كان يسعى إلى إنجاز هدف معرفي، وأن دخوله إلى مجال البلاغة لم يكن دخولاً من طريق إعجاز القرآن فحسب، وإن لم يمنع هذا أيضاً من حضور الدافع الأيديولوجي بوصفه مكوناً من مكونات المستوى الأيديولوجي في كتاب (أسرار البلاغة) الذي يدور أغلب موضوعه على رصد الطرائق والكيفيات التي يتشكل ويعمل بها المجاز. فعبدالقاهر في هذا الكتاب يربط ربطاً واضحاً ومباشراً ـ في أحد نصوصه ـ بين أهمية إدراك هذه الطرائق والكيفيات وبين سلامة المعتقد؛ إذ يقول:
(ومَن قدح في المجاز وهمّ بأن يصفه بغير الصدق فقد خبط خبطاً عظيماً ويهدف لما لا يخفى، ولو لم يجب البحث عن حقيقة المجاز والعناية به حتى تحصّلَ ضروبه وتضبط أقسامه إلا للسلامة من مثل هذه المقالة والخلاص مما نحا نحو هذه الشبهة لكان من حق العاقل أن يتوفر عليه، ويصرف العناية إليه، فكيف وبطالب الدين حاجة ماسة إليه من جهات يطول عدها، وللشيطان من جانب الجهل به مداخل خفية يأتيهم منها فيسرق دينهم من حيث لا يشعرون، ويلقيهم في الضلالة من حيث ظنوا أنهم يهتدون، وقد اقتسمهم البلاء فيه من جانبي الإفراط والتفريط، فمن مغرور مغرى بنفيه دفعة، والبراءة منه جملة، يشمئز من ذكره، وينبو عن اسمه، يرى لزوم الظواهر فرض لازم، وضرب الخيام حولها حتم واجب، وآخر يغلو فيه ويُفرط، ويتجاوز حدّه ويخبط، فيعدل عن الظاهر والمعنى عليه، ويسوم نفسه التعمق في التأويل ولا سبب يدعو إليه).
فعبدالقاهر يربط في هذا النص ربطاً واضحاً بين معرفة حقيقة المجاز، والعناية به، والوعي بضروبه وأقسامه وبين سلامة المعتقد. ذلك أن عدم الوعي به، وبأقسامه وضروبه وعياً دقيقاً، قد يؤدي إلى قرنه بالكذب، ومن ثم نفيه عن النص القرآني، مما يؤدي إلى خلل في إدراك هذا النص، وهو ما يقوم به أهل الظاهر، أو أهل التفريط ـ كما يسميهم عبدالقاهر ـ ومن ثم يقعون فيما يريدون الفرار منه، أو على حد تعبير عبدالقاهر يوقعهم لاشيطان. وكذلك فإن عدم الوعي الدقيق به يؤدي لدى آخرين وهم أهل الإفراط ـ من معتزلة وغيرهم ـ إلى أنهم:
(ينسون أن احتمال اللفظ شرط في كل ما يُعدل به عن الظاهر، فهم يستكرهون الألفاظ على ما لا تقله من المعاني، يدعون السليم من المعنى إلى السقيم ويرون الفائدة حاضرة قد أبدت صفحتها وكشفت قناعها فيعرضون عنها حباً للتشوف أو قصداً للتمويه وذهاباً في الضلالة).
إن عبدالقاهر يرد على أهل الإفراط انطلاقاً من مبدأ تأويلي مكين، وهو أن احتمال اللفظ شرط في كل ما يُعدل به عن الظاهر، وأن للمجاز شروطاً، كما أنه يرد على أهل التفريط من منكري المجاز بـ:
(أن التنزيل كما لم يقلب اللغة في أوضاعها المفردة عن أصولها ولم يخرج الألفاظ عن دلالتها، وأن شيئاً من ذلك إن زيد إليه ما لم يكن قبل الشرع يدل عليه، أو ضُمّن ما لم يتضمنه أتبع ببيان من عند النبي، وذلك كبيانه للصلاة والحج والزكاة والصوم ـ كذلك لم يقض بتبديل عادات أهلها ولم ينقلهم عن أساليبهم وطرقهم ولم يمنعهم ما يتعارفونه من التشبيه والتمثيل والحذف والاتساع. وهو يرى أن هذا وليد سوء نظر منهم ووضع الشيء في غير موضعه وإخلال بالشريطة وخروج عن القانون وتوهم أن المعنى إذا دار في نفوسهم وعُقل من تفسيرهم فقد فُهم من لفظ المفسر وحتى كأن الألفاظ تنقلب عن سجيتها وتزول عن موضوعها فتحمل ما ليس من شأنها أن تحتمله).
ولكن حيث إن هدف عبدالقاهر ليس هو وضع كتاب في مجاز القرآن تحديداً ولكن هدفه هو الوعي بالمجاز وإدراك حقيقته وأقسامه وضروبه، بما هو ظاهرة لغوية مجاوزة للنص القرآني ـ كما أشار في نصه ضمنياً ـ إذا ما تم إدراكها وضبطها على مستوى الكل (اللغة)، تم ضبطها على مستوى الجزء (النص القرآني)، وإنه إذا لم تدرك وتضبط على هذا المستوى لن يمكن إدراكها داخل النص القرآني ـ فإنه لا يهتم بمعالجات الطائفتين للأمثلة القرآنية، ولكن يهتم بهدفه الأساس وهو إدراك وضبط حقيقة المجاز والإلمام بضروبه وأقسامه؛ ذلك أن معالجة المجاز على مستوى النص القرآني لا يمكن لها أن تكون ناجعة بمعزل عن إدراك كيفيات تواجده وعمله خارج النص القرآني؛ من ثم فهو لا يهدف إلى النقاش التفصيلي فيما تقوله الطائفتان ذلك أن:
(ليس القصد ههنا بيان ذلك فأذكر أمثلته على أن كثيراً من هذا الفن