القول بالصرفة في الإعجاز ورأي السيد المرتضى
هناك قول في وجه الإعجاز، لعله يخالف رأي الجمهور، هو: أن الآية والمعجزة في القرآن إنما هي لجهة صرف الناس عن معارضته، صرفهم الله تعالى أن يأتوا بحديث مثله، وأمسك بعزيمتهم دون القيام بمقابلته. ولولا ذلك لاستطاعوا الإتيان بسورة مثله. وهذا التثبيط في نفسه إعجاز خارق للعادة، وآية دالة على صدق نبوته (ص) وهذا المذهب ـ فضلاً عن مخالفته لآراء جمهور العلماء ـ فإنه خطير في نفسه، قد يوجب طعناً في الدين والتشنيع بمعجزة سيد المرسلين (ص) أن لا آية في جوهر القرآن ولا معجزة في ذاته، وإنما هو لأمر خارج هو الجبر وسلب الاختيار، وهو ينافي الاختيار الذي هو غاية التشريع والتكليف. وغير ذلك من التوالي الفاسدة.
ـ مذهب الشريف المرتضى:
المعروف من مذهب الشريف المرتضى (المتوفي سنة 436) في الإعجاز هو القول بالصرفة، نسبه إليه كل من كتب في هذا الشأن، قولاً واحداً. وكذا شيخه أبو عبدالله المفيد (المتوفي سنة 413) في أحد قوليه. وتلميذه أبو جعفر الطوسي (المتوفي سنة 460) في كتابه (تمهيد الأصول) الذي وضعه شرحاً على القسم النظري من رسالة (جمل العلم والعمل) تصنيف المرتضى. لكنه رجع عنه في كتابه (الاقتصاد بتحقيق مباني الاعتقاد) كتبه متأخراً، واعتذر عن تأييده للسيد في شرح الجمل باحتشام رأي شيخه عند شرح كلامه.
قال: كنت نصرت في شرح الجمل (تمهيد الأصول) القول بالصرفة، على ما كان يذهب إليه المرتضى (ره) حيث شرحت كتابه فلم يحسن خلاف مذهبه.
وأما تلميذه الآخر، أبو الصلاح تقي الدين الحلبي (المتوفي سنة 447) فقد سار على منهج الأستاذ وارتضاه وجعله الأوجه من وجوه إعجاز القرآن. واستدل بما يكون تلخيصاً لدلائل السيد، ولم يزد عليه.
ويبدو من كلام السيد ـ فيما نقل عنه الشيخ في التمهيد ـ أنه أرد المعنى الوسط من التفاسير المتقدمة عن صاحب الطراز. وهو: أن العرب سلبوا العلوم التي يحتاج إليها في معارضة مثل القرآن، فخامةً وضخامةً، في وجازة اللفظة وظرافته، في سمو معناه ورفعته ... من أين كانت العرب تأتي بمثل معانيه، حتى ولو فرض قدرتها على صياغة مثل لفظه ولو يسيراً؟!
ومعنى السلب: عدم المنح، على ما سبق في تفسير الآية الكريمة: (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) التوبة/ 127، وكذا قوله تعالى: (ساصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض) الأعراف/ 146، أي أنهم لفرط جهلهم وصمودهم في رفض الحق، حرموا من فيضه تعالى فلم يحظوا ببركات رحمته: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف/ 5، وذلك هو الخذلان والحرمان المقيت.
قال الطبرسي: سلب قدرتهم على التكذيب، بمعنى توفير الدلائل والبراهين القاطعة بحيث لا تدع مجالاً للشك فضلاً عن الرد وإمكان التكذيب، (ذلك الكتاب لا ريب فيه) البقرة/ 2.
فقد توفرت المعاني الضخمة، وازدحمت المعارف الجليلة، بين أحضان القرآن الكريم، بما بهر العقول وطار بالألباب ... الأمر الذي سلب قدرة المعارضة عن أي معارض متى رامها، ولم يدع مجالاً للتفكير في مقابلته لأي صنديد عنيد، ما دام هذا الكتاب العزيز قد شمخ بأنفه على كل مستكبر جبار عارض طريقه إلى الإمام!!
فلعل الشريف المرتضى أراد هذا المعنى، وأن اللفظ مهما جلّ نظمه وعزّ سبكه، فإنه لا يبلغ مرتبة المعنى في جلاله وكبريائه، والتحدي إنما وقع بهذا الأهم الأشمل، قال: ((فإن قال: الصرف عماذا وقع؟ قلنا: عن أن يأتوا بكلام يساوي أو يقارب القرآن في فصاحته وطريقة نظمه، بأن سلب كل من رام المعارضة، العلوم التي تتأتى بها من ذلك. فإن العلوم التي بها يتمكن من ذلك ضرورة من فعله تعالى بمجرى العادة ... )).
تأمل هذه العبارة وأمعن النظر فيها، تجدها صريحة ـ تقريباً ـ في إرادة القدرة العلمية، التي هي حكمة إلهية يهبها لمن يشاء من عباده، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً. فهؤلاء حرموها مغبة لجاجهم وعنادهم مع الحق.
وهكذا فهم الأستاذ الرافعي تفسير مذهب السيد في الصرفة، قال: وقال المرتضى من الشيعة: بل معنى الصرفة أن اله سلبهم العلوم ... التي يحتاج إليها في المعارضة ليجيؤوا بمثل القرآن ... فكأنه يقول: أنهم بلغاء يقدرون على مثل النظم والأسلوب، ولا يستطيعون ما وراء ذلك مما لبسته ألفاظ القرآن من المعاني، إذ لم يكونوا أهل علم ولا كان العلم في زمنهم.
ومن قبل قال التفتازاني: أو بسلب العلوم التي لابد منها في الإتيان بمثل القرآن، بمعنى أنها لم تكن حاصلة لهم .. أو بمعنى أنها كانت حاصلة فأزالها الله. قال: وهذا (سلب العلوم) هو المختار عند المرتضى ...
قلت: ظاهر قول المرتضى هو الشق الأول من المعنيين: (أنها لم تكن حاصلة لهم).
وللأستاذ توفيق الفكيكي البغدادي محاولة مشكورة بشأن الدفاع عن موقف السيد في مذهب الصرفة. إذ استبعد أن يأخذ مثل الشريف المرتضى وهو علم الهدى موضعاً يبتعد عن موضع الشيعة الإمامية وإجماع محققيهم وهو رأسهم وسيدهم، وكذا شيخه أبو عبدالله المفيد الذي هو أستاذ الكل ومفخر المتكلمين.
قال: إن أقوال أئمة الإمامية المعتمدة المعتبرة، لا تختلف عن كلام أهل التحقيق من أساطين العلم وزعماء البيان في حقيقة الإعجاز، حتى لقد اشتهر قولهم: ((القول بالصدفة كالقول بالصرفة)) في الامتناع. كما نبّه عليه العلامة الحجة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء. قال: فنسبة القول بالصرفة ـ بمعناها الباطل ـ إلى العلامة الجليل (المفيد) وإلى تلميذه (الشريف المرتضى) لا يحتملها النظر الصحيح بعد كون هذا الاحتمال مخالفاً لعقيدة الشيعة الإمامية ولأصول مبانيها.
قال: والذي نحتمله بل ونعتقده أن الشيخ المفيد معروف بقوة الجدل والتمرس بفنون المناظرة، وكان كسقراط يلقي على تلاميذه مسائل دقيقة ويناقشهم فيها لاختبار عقولهم، ولا سيما شبهات المعتزلة كآراء النظّام وأصحابه القائلين بالصرفة، وهي إحدى المسائل التي ناظر بها أقطاب المعتزلة، فلعله وقع في نفوس البعض أنه يقول بها، وهو اشتباه لا يستند إلى تحقيق.
وهكذا احتمل بشأن الشريف المرتضى ـ العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني ـ أنه كان معروفاً بقوة الجدل والتحول في حوار المناظرين إلى هنا وهناك، فلم يعلم كونها عقيدة له ونظرية ثابتاً عليها ...
وبعد ... فالإيفاء بأمانة البحث يستدعي نقل كلام المرتضى بكامله، حسبما وصل إلينا عن طريق تلميذه الأكبر الطوسي وغيره من الأقطاب:
قال السيد ـ في كتابه (الجمل) في باب ما يجب اعتقاده في النبوة ـ : ((وقد دلّ الله تعالى على صدق رسوله محمد (ص) بالقرآن، لأن ظهوره معلوم ضرورة، وتحديه العرب والعجم معلوم أيضاً ضرورة، وارتفاع معارضته أيضاً بقريب من الضرورة، فإن ذلك التعذر معلوم بأدنى نظر، لأنه لولا التعذر لعورض، فأما أن يكون القرآن من فعله تعالى على سبيل التصديق له، فيكون هو العَلَم الدال على النبوة، وقد بينا في كتاب (الصرف) الصحيح من ذلك وبسطناه)).
وقد أوضح السيد جانباً من مذهبه، في أجوبة المسائل الرسيّة، عندما تعرض لسؤال القائل: أنكم تقولون أن وجه الإعجاز هو الصرفة، والعلم به مفتقر إلى معرفة مراتب الفصاحة لكي يعرف الناظر عدم الفرق البائن بين المعجز والممكن ... الأمر الذي يقتضي توقف إثبات النبوة على معرفة العربية المتعذرة على عامة المكلفين، فيلزم على ذلك إبطال النبوة، لا سمح الله ..