نشأة الإعجاز التأثيري للقرآن وتطوره
نستطيع أن نميِّز بين مراحل نشأة الإعجاز التأثيري وتطوره:
ـ المرحلة الأولى: مرحلة النشأة:
تتصل نشأة هذا الوجه الإعجازي للقرآن بنزول القرآن الكريم نفسه اتصالاً مباشراً، وذلك لما يلي:
أولاً: أمر الله سبحانه وتعالى ـ في كتابه بالحرص على إسماع المشركين القرآن الكريم، ليكون ذلك عوناً على دعوتهم للإسلام، قال ابن حجر: «ولا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله تعالى معجز، لم يقدر أحد على معارضته بعد تحديهم بذلك، قال تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) ». فلولا أن سماعه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه، ولا يكون حجة إلا وهو معجزة والمعجزة لابدّ لها من أثر فيمن تعجزه، إما تصديقاً أو تكذيباً.
ثانياً: ما ورد في كتب السيرة والتفسير وأغلب الكتب التي تتناول قضية الإعجاز عن لجوء رسول الله (ص) لإعجاز القرآن التأثيري كوسيلة أساسية من أسس الدعوة للإسلام وظهور أثر هذه الوسيلة الفعال في كل من استعملت معه، إما قبولاً واعتناقاً للإسلام، أو نفوراً وإعراضاً عنه، أو إقراراً بإعجاز القرآن في حاله.
ثالثاً: إن الإعجاز التأثيري في هذه المرحلة ـ وهي مرحلة النشأة الأولى ـ يتمثل في الممارسة والسلوك العملي للإعجاز نفسه، دون التأليف فيه، أو وضع قواعد أو أصول له، وإنما تدل الشواهد الكثيرة على ممارسته في حياة المسلمين.
وبعد قرنين من الزمان ـ وفي أوائل القرن الثالث الهجري ـ أشار الجاحظ (ت 255) في كتابه (البيان والتبيين) ـ من خلال حديثه عن الإعجاز البلاغي للقرآن ـ إشارات خاطفة للإعجاز التأثيري، وكذلك فعل الرماني في منتصف القرن الرابع (ت 386).
ـ المرحلة الثانية: مرحلة التأصيل العلمي للإعجاز التأثيري:
سنقف في هذه المرحلة مع عدد من العلماء القدامى والمحدثين، ممن تحدثوا عن الإعجاز التأثيري: فمن العلماء القدامى: (الخطابي، والجرجاني، وابن القيم).
ومن العلماء المحدثين: (د. عبدالكريم الخطيب الإمام/ محمد الغزالي).
1 ـ الخطابي: (أبو سيلمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي ـ ت 388هـ ).
يبدأ الخطابي رسالته (بيان إعجاز القرآن) بالاعتراف بتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن، ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيته، ثم بدأ في ذكر وجوه الإعجاز فحددها. وفي نهاية رسالته عاد الخطابي إلى تأكيد رأيه في الإعجاز القرآني، وذلك باختياره الإعجاز التأثيري كأهم وجه من وجوه الإعجاز. فقال: (قلت: في إعجاز القرآن وجه آخر، ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب، وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن ـ منظوماً ولا منثوراً ـ إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه، عادت إليه مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس ومضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول (ص) من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عدواتهم موالاة، وكفرهم إيماناً.
خرج عمر بن الخطاب (رض) يريد رسول الله (ص) ويعمد إلى قتله، فسار إلى دار أخته وهي تقرأ (سورة طه)، فلما وقع في سمعه لم يلبث أن آمن.
وبعث الملأ من قريش عتبة بن ربيعة إلى رسول الله (ص) ليوقفوه على أمور أرسلوه بها، فقرأ عليه رسول الله (ص) آيات من (حم السجدة) فلما أقبل عتبة وأبصره الملأ من قريش قالوا: أقبل أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. ولما قرأ رسول الله (ص) القرآن في الموسم على النفر الذين حضروه من الأنصار آمنوا، وعادوا إلى المدينة فأظهروا الدين بها، فلم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيه قرآن. وقد روي عن بعضهم أنه قال: فتحت الأمصار بالسيوف، وفتحت المدينة بالقرآن.
ولما سمعته الجن لم تتمالك أن قالت: (إنّا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد فآمنّا به)، ومصداق ما وصفناه في أمر القرآن في قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله)، وقوله تعالى: (الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله)، وغير ذلك في آي ذوات عدد منه، وذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد، وهو من عظيم آياته، ودلائل معجزاته.
2 ـ الإعجاز التأثيري عند عبدالقاهر الجرجاني (ت 473هـ ):
نبه الدكتور محمد بركات أبو علي إلى مسألة هامة في بحثنا هذا، وهي: تأثر عبدالقاهر بسلفه الخطابي في نظرته لإعجاز القرآن. يقول الدكتور محمد بركات: (مما تميز به الخطابي: أنه أبرز وجهاً للإعجاز، وهو الأثر النفسي، وأصبح هذا الرأي أساساً من أسس نظرية عبدالقاهر في النظم في كتبه وكتب بعض المعاصرين في الأدب ... ).
وذكر بعض الباحثين: أن عبدالقاهر الجرجاني كان يعتمد على ذوقه الوجداني في حديثه عن إعجاز القرآن، وعرضه لموقف البلاغيين، وكيف أنهم انشغلوا بقضية اللفظ والمعنى، حتى وصلوا في التقسيم والتبويب إلى درجة من التعقيد لا تطاق، ولم يستثن منهم سوى عبدالقاهر، لأنه تذوق النص القرآني، وتفاعل وتأثر به تاثراً واضحاً.
والدكتور عبدالكريم الخطيب عندما تعرض لموقف عبدالقاهر من قضية الإعجاز فقال عنه: (إن عبدالقاهر لم يتحدث عن الإعجاز حديثاً مباشراً، وإنما جعل وجه الإعجاز عنده يقوم على الذوق الوجداني). وقال أيضاً: (ولو لم يكن لعبدالقاهر فضل هنا إلا أنه دفع عن البلاغة هذا المفهوم الخاطئ الذي كان يذهب مذاهب الجدل اللفظي البعيد عن الذوق الجمالي والجائر على حظ العاطفة والوجدان منها ـ لو لم يكن له إلا هذا لكان ذلك فضلاً كبير يعرف له، ونستطيع أن نستنبط من هذه الأقوال: أن عبدالقاهر كان له رأي في مسألة الإعجاز التأثيري. وقد حاولت البحث فيما تحدث به عن هذا الوجه فوجدته عندما حاول التدليل على عجز العرب أمام القرآن، وذلك من خلال أقوالهم، وذكر أمثلة ثلاثة، هي:
أ ـ حديث الوليد بن المغيرة. وذكر فيه قوله عن القرآن: (والله إن لقوله لحلاوة، وإن اصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل).
ب ـ حديث عتبة بن ربيعة: وذكر فيه قوله عن القرآن أيضاً: (إني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، وا- ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة .. ).
ج ـ حديث إسلام أبي ذكر وأخيه أنيس، وقوله عن القرآن كلاماً قريباً من هذا.
وهذه الأمثلة الثلاثة التي ساقها الجرجاني يدلل بها على حال العرب العاجزة أمام القرآن لتدل على أنه يرى الإعجاز التأثيري من أهم وجوه الإعجاز القرآني. وذلك من وجهين:
1 ـ إن كل مَن تحدث عن إعجاز القرآن من السابقين له أو اللاحقين عليه وأشار إلى هذا الوجه إشارة واضحة ـ كالخطابي ـ مثلاً ـ ، أو غير واضحة ـ كالباقلاني ـ إلا واستشهد بها، لدلالتها على مدى أثر القرآن في نفس من سمعه أو قرأه.
2 ـ إن بعض الشواهد القرآنية التي ذكرها عبدالقاهر في حديث عن النظم ـ كوجه للإعجاز القرآني ـ قد حللها تحليلاً يبرز من خلاله مدى الأثر النفسي على مَن يقرؤها أو يسمعها. وإليك بعضها، لترى صدق ما ذهبنا إليه.
يقول عبدالقاهر في قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن ... ): ليس بخاف أن لتقدم الشركاء حسناً وروعة. ومأخذاً في القلوب. أنت لا تجد شيئاً منه إذا أخرت فقلت: (وجعلوا الجن شركاء لله) وإنك لترى حالك حال مَن نقل عن الصورة المبهجة. والمنظر الرائق، والحسن الباهر، إلى الشيء الغفل، الذي لا تحظى منه بكثير طائل. ولا تصير النفس به إلى حاصل.
وفي مثال آخر يقول عند قوله تعالى: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة): (وإذا أنت راجعت نفسك، وأذكيت حسك، وجدت لهذا التنكير، وإن قيل: (على حياة) ولم يقل (على الحياة) حسناً وروعة، ولطف موقع، لا يقادر قدره، وتجدك تغدم هذا التعريف وتخرج عن الأريحية والأنس إلى خلافهما).
3 ـ وأخيراً فقد جعل عبدالقاهر وجه الإعجاز القرآني في نظمه، وجعل النظم علة من أهم علل التأثير في النص القرآني في سامعه وقارئه، يقول الجرجاني: (ومَن هذا الذي يرضى من نفسه أن يزعم أن البرهان الذي بان لهم ـ أي للعرب ـ والأمر الذي بهرهم، والهيبة التي ملأت صدورهم، والروعة التي دخلت عليهم فأزعجتهم حتى قالوا: (إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر) إنما كان لشيء راعهم من موقع حركاته، ومن ترتيبه وبيان سكناته، أو الفواصل في أواخر آياته؟ من أين تليق هذه الصفة وهذا التشبيه بذلك؟ أم ترى أن ابن مسعود، حين قال في صفة القرآن: (لا يتفه ولا يتشان)!، وقال: إذا وقعت في ال. حم) وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن)، قال ذلك من أجل أوزان الكلمات، ومن أجل الفواصل في أخريات الآيات؟).