يأكلون ويشربون ، فانتعشت البلد من توريد الخضروات واللحوم والفواكه واللبن للجيش حتى أسعار التمر ارتفعت ارتفاعا ليس له نظير في ذلك العام ، وصحيح أيضا أن الحكومة هذا المخلوق الذي يشبهونه في نوادرهم بالحمار الحرون ، قررت لغير ما سبب ظاهر أيضا أن تبني في بلدتهم - دون سائر بلدان الجزء الشممالي من القطر وهم قوم لا حول لهم ولا طول ، ولا نفوذ ولا صوت يتحدث باسمهم في محافل الحكام - قررت الحكومة أن تبني في بلدهم ، دفعة واحدة مستشفى كبيرا يتسع لخمسمائة مريض ، ومدرسة ثانوية ومدرسة للزراعة ومرة أخرى عادت الفائدة على البلد ، في الأيدي العاملة ومواد البناء وتوريد الغذاء ناهيك بأن مرضاهم سيضمنون العلاج وإن إبناءهم سينالون حقهم من التعليم ، وإذا كانت كل هذه الأدلة لا تكفي ، فكيف تفسر بأن الحكومة هذا ( الحمار الحرون ) في اعتقادهم ، قررت أيضا في العام ذاته ولم يمض على وفاة الحنين أكثر من شهرين أن تنظم أراضيهم كلها في مشروع زراعي كبير تشرف
عليه الحكومة نفسها بما لها من قوة وسلطان ؟ وجدوا بلدهم فجأة تعج بالمساحين والمهندسين والمفتشين والحكومة إذا عزمت على أمر فإنها قادرة على تنفيذه فما هو إلا يوم في أثر يوم وشهر يعقبه شهر ، حتى قام على ضفة النيل في بلدهم بناء شامخ من الطوب الأحمر مثل المعبد يلقي ظلاله على النيل ، وبعد ذلك بقليل ، بين لغط العاملين وقرقعة الحديد إذا بعجلات ذلك المارد تدور ، وإذا بمصاصاته تشفط من ماء النيل ، كما يشفط الرجل الشاي ، في لمح البصر ، كميات لا تقوي عليها عشرات من سواقيهم في عشرات الأيام ، وإذا بالأرض على اتساعها من ضفة النيل إلى طرف الصحراء يغمرها الماء بعضها أراض لم تر الماء منذ أقدم السنين. وإذا بها تموج بالحياة ، كيف تفسر هذا ؟ عبد الحفيظ يعلم السر ، فهو يقول لمحجوب ، وهو يجمع بين عينيه الحقل الواسع الذي هو حقله والريح تلعب بالقمح فتثني صفوفه فكأنه حوريات رشيقة تجفف شعرها في الهواء ( معجزة يا زول . ما في أدني شك ) .
***
جلس الطريفي خلسة في مقعده بعد أن حدث الناظر بخبر عرس الزين ، جلس خلسة على طرف مؤخرته كأنه يتهيأ للهروب في أية لحظة ، فقد كان في سمته وطبعه شيء من سمت الضبع وطبعه . ونظر حوله بعينيه الماكرتين ، وهمس في أذن جاره من اليمين : ( نجينا الليلة من الجغرافيا ، أشارطك الناظر ما يتم الحصة ) . وكما تنبأ الطريفي أعلن الناظر في صوت فاتر غير مكترث أنه خارج لأمر عاجل : ( راجعوا الدرس بتاع منطقة زراعة القمح في كندا ) ، وخرج في خطوات متوترة ، وراقبه الطريفي ، وهو يحاول ألا يهرول حتى وصل باب فناء المدرسة ، وضحك الطريفي بخبث حين رأى الناظر يمسك بذيل عباءته في يده ، ويهرول مكبا على وجهه في الرمل .
ووصل الناظر إلى دكان شيخ علي في السوق ، لاهث النفس ، جاف الحلق ، إذ أن المدرسة لم تكن قريبة كل القرب من السوق وبينها وبينه رمل تغوص فيه القدم ، والناظر قد جاوز الخمسين ، كان دكان شيخ علي في السوق مقره المفضل . سر لما رأي عبد الصمد أيضا فقد كانت بينه وبينه صداقة مريرة ، لا يطيب له المجلس أو لعب الطاولة بدونه . وكان بينه وبين المتجر مقدار عشرة أمتار لكنه لم يطق صبرا . فبدأ يتحدث وهو مقبل عليهما : ( شيخ علي ، حاج عبد الصمد ، السنة دي سنة العجايب دا كلام أيه دا ؟ ) وأوصلته الجملة عندهم ، فأجلسوه على مقعده المفضل ، مقعد وطيء من خشب وجبال عليه مسند وله متكآت على جانبيه :
وكانت القهوة ما تزال ساخنة ، تفوح منها رائحة القرفة والحبهان والجنزبيل ، أمسك بالفنجان وقربه إلى فمه ، لكنه لم يلبث أن رده وقال : ( الخبر دا صحيح ؟ ) .
وضحك عبد الصمد وقال للناظر : ( كدى أشرب القهوة قبل تبرد . الكلام صحيح ) .
وقال الشيخ علي وهو يحرك التبغ الممضوغ من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر في فمه ( حكاية عرس الزين موكدي ؟ صحيح وأبوه صحيح كمان ) .
وشفط الناظر شفطة كبيرة من الفنجان ، ثم وضعه على منضدة صغيرة أمامه وأشعل لنفسه سيجارة شد منها نفسا عميقا ( يا رجل دي سنة غريبة جدا ، وألا أنا غلطان ؟ ) لم يكن الناظر يستعمل عبارة ( زول ) أي ( شخص ) كبقية أهل البلد ، بل كان يقول ( رجل ) في بداية جملة .
وقال عبد الصمد : ( كلامك صحيح جناب الناظر ، سنة عجيبة فعلا النسوان القنعن من الولادة ولدن ، البقر والغنم جابت الاثنين والثلاثة ) . وواصل حاج علي تعداد المعجزات التي حدثت ذلك العام : ( تمر النخيل كثير لا من غلبنا من الشولات النشيلة فيها الثلج نزل . دا كلام ! الثلج في ذلك العام شيئا حيرهم جميعا . ولم يستطع الناظر مع طول باعه في علم الجغرافيا أن يجد له تعليلا ، وقال الناظر : ( لكين المعجزة الكبرى موضوع زواج الزين ) -هذه كانت عادته ، يزج الكلمات الفصحى في حديثه .
وقال شيخ علي : ( الواحد ما يكاد يصدق ) كان الناظر يعديه هو وعبد الصمد بكلماته الفصحى ، فيحاولان مجاراته .
وقال عبد الصمد : ( كلام الحنين ما وقع البحر ، قال له باكر تعرس أحسن بت في البلد ) .
وقال الناظر : ( أي نعم والله . أحسن بنت في البلد إطلاقا ، أي جمال ! أي أدب ! حشمة !).
وقال عبد الصمد مستفزا : ( أي فلوس ! أنا عارفك كت خات عينك عليها عشان مال أبوها ) واحتد الناظر وهو يرد التهمة عن نفسه : ( أنا خاف الله يا رجل هذه في عمر بناتي ) .
وقال شيخ علي يسري عنه : ( عمر بناتك ايه يا شيخ ؟ الراجل راجل حتى في أرزل العمر ، والبنت من سن أربعتاشر قابلة للزواج من أي راجل ولو كان زي جنابك في الستين ) .
( خاف الله يا رجل ، أنا في الخمسين ، أصغر منك ومن عبد الصمد قطع شك ) .
وقهقهة عبد الصمد قهقته المشهور من جوف صدره وقال : ( طيب بلاش موضوع العمر ، أيه رأيك في حكاية عرس الزين ؟ )
وقال الناظر : يا رجل دا موضوع مدهش . ازي حاج إبراهيم يقبل ؟ الزين رجل درويش ماله ومال الزواج ؟ ) .
وأضاف شيخ علي أيضاً : ( رحمة الله عليه . جاب لنا الخير في البلد ) . وقال عبد الصمد : ( وكله عشان خاطر الزين ) .
وقال الناظر : ( يا رجل ما دخلنا في موضوع الكرامات ؟ لكن برضه ... )
وقاطعه شيخ علي : ( مهما يكون ، الراجل راجل والمره مره ) .
وأضاف عبد الصمد : ( والبت بت عمه على كل حال ) .
صمت الناظر ، فإنه لم يجد ما يرد به على كلامهما - من الناحية الشكلية على الأقل : فكون بنت العم لابن العم حجة ليس بعدها حجة في عرف أهل البلد ، أنه تقليد قديم عندهم ، في قدم غريزة الحياة نفسها ، غريزة البقاء وحفظ النوع . لكنه في قرارة نفسه كان مثل آمنة . يحس بلطمة شخصية موجهة له ، وأحس برهة بارتياح : أن علي وعبد الصمد لا يعلمان بأنه فاتح حاج إبراهيم في أمر نعمة لو علما إذا لما استطاع أن ينجو من لسانيهما السليطين . وسأل نفسه وهو يشرب الفنجان الخامس من قهوة شيخ علي ، لماذا طلب يدها ؟ فتاة صغيرة في سن بناته . أنه لا يدري تماما . لكنه رآها ذات يوم خارجه من الدار ، ترتدي ثوبا أبيض . صادفها وجها لوجه . راعه جمالها سلم عليها بصوت مرتعش فردت سلامة بصوت هادئ رزين . قال له : ( أنت نعمة بنت حاج إبراهيم ؟ ) فقالت دون تردد أو وجل : ( نعم ) وبسرعة بحث في ذهنه عن سؤال آخر يستبطئها به قبل أن تذهب فلم يجد خيرا : ( أخوك أحمد كيف حاله ؟ ) - كان هذا أخاها الأصغر الذي كان من تلاميذه . فقالت له ووجهها الجريء قبالة وجهه : ( طيب ) ثم ذهبت ... وعاش الناظر بعد ذلك ليالي وصورتها لا تفارق ذهنه . لعلها أيقظت في قلبه إحساسا دفينا . لم يذكره منذ عشرين عاما . وأخيرا لم يقو على الصبر فانتهز وعكة خفيفة ألمت بأبيها فذهب إليه بحجة عيادته . وجده وحده لحسن حظه ، وبعد حديث سطحي عن أسعار القمح وحال المدرسة ، دخل الناظر في الموضوع ، وبسرعة طلب يد نعمة من أبيها ، لم يفهم حاج إبراهيم شيئا أول الأمر ، أو لعله تغابى فاستوضح الناظر في جملة أو جملتين حزنا في نفسه قال له أولا : ( داير نعمة لي منو ؟ ) فقال الناظر بشيء من العجرفة : ( لي منو ؟ أنا طبعا ) . وكأنما حاج إبراهيم غرس خنجرا ثم ضغط على مقبضه ليثبته أكثر في قلبه حين قال له : ( ليك أنت ؟ ) خلاصة القول أن زيارته كانت خطأ فادحا . وحاول حاج إبراهيم أن يخفف عنه الوقع فألقى خطبة طويلة عن الشرف الذي أسبغه عليه الناظر بطلبه وأنه خير صهر له وو ... لكن ، وهذا هو المهم ، لكن الفرق بين سنة وسن البنت يجعله لا يستطيع أن يقبل ، فهو بهذا لا يرضي ضميره ، ثم أن أخوانها سيعترضون ، وأخيرا حاول الناظر ملافاة الضرر ، فاستحلف حاج إبراهيم إلا يذكر شيئا مما دار بينهما لمخلوق ، وأن يعتبر الأمر كأن لم يكن . ( نحفر حفرة وندفنه في محله دا).