وكان حاج إبراهيم عند حسن ظنه . لكن الناظر في قراره نفسه ، على الرغم من اقتناعه بخطئة ، لم يستطع أن يتخلص من الطعم المر في حلقه ، ولما سمع بأنها ستزف للزين دون سائر الناس أحس ، الخنجر ينغرس أكثر في قلبه ، وذعر الناظر قليلا حين سمع عبد الصمد يقول له : ( جنابك ما تزعل أبدا ، إذا كنت عاوز تعرس . البلد مليانة نسوان عزبات ، المطلقة والراجلها مات أجمل نسوان علي باليمين ) .
وهنا ثار الناظر فعلا . انصب حنقه الداخلي كله على عبد الصمد : ( يا رجل أنت مجنون ؟ أنت ما تعرف تفرق بين الجد والهزار ؟ ما أنت راجل اونطة صحيح ! ) .
وقهقهة عبد الصمد بلذة عميقة ، فقد نجح في استثارة الناظر ، أنه يتصيد هذه الفرص ، لعل الذي آلمه في الموضوع ذكر النساء الثيبات ! وقال شيخ علي يزيد النار اشتعالا : ( يعني جناب الناظر لما يحب يتزوج فوق أم أولاده . يتزوج نسوان سكندهاند ؟ أما فعلا يا حاج عبد الصمد أنت راجل اونطة صحيح ) .
وتمسك عبد الصمد بكلمة ( سكندهاند ) يغيظ بها علي هذه المرة : ( قت شنو آشيخ علي ؟ سكن دهان ؟ والله عجايب ! عشنا وشفنا علي ود الشايب يتكلم الأفرنجي ) .
وضحك الناظر بإفراط محاولا قدر المستطاع تحويل الهجوم عن شخصه إلى شخص شيخ علي ، لكن شيخ علي كان عليما بنزوات عبد الصمد وحركات الناظر فتجاهل هجوم عبد الصمد وعاد بالحديث إلى موضوع زواج الزين : ( المهم زي ما قلنا العرس مو قاسي . والراجل راجل وأن كان بي رياله والمره مره وأن كانت شجرة الدر ) .
تعجب الناظر في سره كيف عرف شيخ علي اسم شجرة الدر . ووقع الاسم موقعا حسنا على أذن عبد الصمد وكان جاهلا به لكنه تحرج من السؤال مخافة أن يفضح جهله . ومضى شيخ علي يعدد لهما أسماء الرجال الذين لم يكن لهم شأن يذكر ومع ذلك تزوجوا نساء بارعات الذكاء مفرطات الحسن . استحوذ على اهتمام خصميه مدة غير قليلة من الزمن . وغمرته السعادة وهو يرى الدهشة والإعجاب يبدوان على وجهيهما . ذكرهما بقصة كثير الذي أحبته عزة على قصره وبشاعة هيئته . وقصة الأعرابية التي سألوها كيف تزوجت رجلا جلفا قميئا فقالت لهم ( والله لو .. إلخ ) وكاد الناظر وعبد الصمد يستلقيان على ظهريهما من الضحك حين سمعا ما قالته الأعرابية . ثم أشار إلى قبيلة الإبراهيمات الذين انحدروا جميعا من صلب رجل درويش يدعى إبراهيم أبو جبة ، وكيف أنه .. لكن عبد الصمد ضاق ذرعا بطلاوة لسان شيخ علي ، فقاطعه بشيء من الحدة قائلا : ( أنت رايح بعيد ليه لي كثير عزة وقبيلة الأبراهيمات ؟ عند سعيد البوم .. ماك طاري حكاية عرسه ؟ ) ابتسم الناظر ، فقد كان بينه وبين سعيد البوم مدة خاصة ، أم لعله كان يستغل سعيد في جلب الحطب والماء لبيته ؟ وكان سعيد يبيع حطب الوقود ويخدم في البيوت ، ويدخر ماله عند الناظر ، ولما أراد الزواج جاء إلى الناظر واستشاره ، وتباهى بعد ذلك أن الناظر في جلالة قدره شهد عقد زواجه . كل أحد في البلد يعرف قصة زواج سعيد ، وأنه عاش مع زوجته قريبا من الحلول لا يمسها وكادت تيأس وتطلقه وكان سعيد يقول إذا سألوه عن سبب إبطائه : ( التررن بالمهلة ) . لكنه فيما بعد على أي حال أولدها أولاد وبنات .
وفجأة لمح الناظر في خياله وجه نعمة ، ومرة أخرى أحس بالخنجر يتحرك في قلبه ، فقال وكأنه لم يسمع كل القصص التي قصها عليه شيخ علي وحاج عبد الصمد : ( لكين تتزوج الزين ؟ دا اسمه كلام يا رجل ؟ والله عجايب ! )
تأثر أمام المسجد أيضا بالحوداث العجيبة التي شهدتها القرية ذلك العام . كان رجلا ملحاحا متزمتا كثير الكلام ، في رأي أهل البلد . كانوا في دخيلتهم يحتقرونه ، لأنه كان الوحيد بينهم الذي لا يعمل عملا واضحا - في زعمهم . لم يكن له حقل يزرعه ولا تجارة يهتم بها ولكنه كان يعيش من تعليم الصبيان له في كل بيت ضريبة مفروضة ، يدفعها الناس عن غير طيب خاطر ، وكان يرتبط في أذهانهم بأمور يحلو لهم أحيانا أن ينسوها : الموت والآخرة والصلاة فعلق على شخصه في أذهانهم شيء قديم كئيب مثل نسيج العنكبوت ، إذا ذكر اسمه خطر على بالهم تلقائيا موت عزيز لديهم ، أو تذكروا صلاة الفجر في عز الشتاء ، وما يرتبط بذلك من وضوء بالماء البارد يشقق الرجلين ، وخروج من الفراش الدافئ إلى لفح الصقيع وسير في غبش الفجر إلى المسجد . هذا إذا كان الواحد منهم يذهب بالفعل إلى الصلاة . أما إذا كان مثل محجوب ، وعبد الحفيظ ، وأحمد إسماعيل ، والطاهر الرواسي ، وحمد ود الريس ، من النفر " العصاة " الذين لا يصلون ، فإنه يحس كل صباح بإحساس غامض يثير القلق ، من نوع الإحساس الذي يحسه الواحد منهم إذا نظر خلسة إلى امرأة جاره ، ويقول لك محجوب إذا سألته عن إمام المسجد أنه " راجل صعب . لا يأخذ ولا يدي " معنى ذلك أنه لم
يكن يسايرهم أو يخوض معهم في أحاديثهم - لم يكن يعنيه ، كما يعنيهم ، أوان زراعه القمح وسبل ريه وسماده وقطعه أو حصاده . لم يكن يهمه هل موسم الذرة في حقل عبد الحفيظ نجح أم فسد ، وهل البطيخ في حقل ود الريس كبر أم صغر ؟ كم سعر أردب الفول في السوق ؟ هل هبط سعر البصل ؟ لماذا تأخر لقاح النخل ؟ كانت تلك أمور ينفر منه بطبعه ويحتقرها بسبب جهله بها . ومن ناحية أخرى ، كان هو يهتم بأمور لا يأبه لها إلا القليلون من البلد . كان يتتبع الأخبار من الإذاعة والصحف ويحب أن يناقش هل ستقوم الحرب أم لا ؟ هل الروس أقوى أم الأمريكان ؟ ماذا قال نهرو وماذا قال تيتو ؟ وكان أهل البلد مشغولين بجزئيات الحياة ، لا تعنيهم عمومياتها . وهكذا نشأت الهوة بينه وبينهم لكنهم إن لم يحبوه ، فقد كانوا يعترفون بحاجتهم إليه . يعترفون مثلا بعلمه ، فقد قضى عشر سنوات في الأزهر ، يقول الواحد منهم : " الإمام ما عنده شغلة " . ثم يضيف : " لكن الحق لسانه فصيح كلام " كان يلهب ظهورهم في خطبه . وكأنه ينتقم لنفسه منهم . بكلام متدفق فصيح عن الحساب والعقاب ، والجنة والنار ، ومعصية الله والتوبة إليه ، كلام ينزل في حلوقهم كالسم . يخرج الرجل من المسجد بعد صلاة الجمعة زائغ العينين ويحس وهلة كأن سير الحياة قد توقف ينظر إلى حقله بما فيه من نخل وزرع وشجر ، فلا يحس بأي غبطة في نفسه . يحس أنها جميعا عرض زائل ، وأن الحياة التي يحياها بما فيها من فرح وحزن ، ما هي إلا جسر إلى عالم آخر . ويقف برهة يسأل نفسه ماذا أعد لذلك العالم الآخر ؟ لكن جزئيات الحياة ما تلبث أن تشغل فكره : وسريعا أسرع مما كان يتوقع تغيب صورة العالم الآخر البعيد ، وتأخذ الأشياء أوضاعها الطبيعية . وينظر إلى حقله فيحس مرة أخرى بذلك الفرح القديم الذي يعطيه مبررات وجوده . ومع ذلك فأكثرهم يعودون إليه في كل مرة ليجربوا نفس الصراع الغامض . يعودون إليه لأن صوته قوي واضح وهو يخطب . عذب رخيم وهو يرتل القرآن ، مهيب حين يصلي على الأموات ، حازم عليم ببواطن الأمور وهو يقوم بعقود الزواج . وكانت في عينيه نظرة احتقار وترفع يحس الواحد منهم وقعها حين يفقد ثقته بنفسه ، كان مثل الضريح الكبير وسط المقبرة .
وكانت البلد منقسمة إلى معسكرات واضحة المعالم إزاء الإمام ( لم يكونوا أبدا ينادونه باسمه ، فكأنه في أذهانهم ليس شخصا بل مؤسسة ) . معسكر أغلبه من الرجال الكبار العقلاء يتزعمه حاج إبراهيم . أبو نعمة ، يعامل الإمام معاملة ود يشوبه تحفظ هؤلاء كانوا يحضرون كل الصلوات في المسجد ويبدو على وجوههم على الأقل أنهم يفهمون ما يقول . يدعونه إلى الغداء كل يوم جمعة بعد الصلاة كل واحد منهم يدعوه يوما بالتناوب . كانوا يدفعونه إليه بصدقة الفطر في عيد رمضان ، ويعطونه جلود الذبائح في عيد الأضحى إذا تزوج أحد أبنائهم أو بناتهم ، أعطوه حقه نقدا ومعه رداء أو ثوب . شذ عن هذا الفريق رجل في السبعين اسمه إبراهيم ود طه . لا يصلي ولا يصوم ولا يزكي ولا يعترف بوجود الإمام والفريق الثاني . وأغلبه من الشبان دون العشرين يعادي إمام المسجد عداءا سافرا . بعضهم تلاميذ في المدارس . وبعضهم سافر وعاد، وبعضهم يحس على أي حال بفيض الحياة حارا قويا في دمه فلا يحفل برجل صناعته تذكير الناس بالموت . هذا كان فريق المغامرين - منهم من يشرب الخمر سرا ويلم خفية بالواحة في طرف الصحراء - . وفريق المتعلمين الذين قرأوا أو سمعوا بالمادية الجدلية ، وفريق المتمردين ، وفريق الكسالى الذين يصعب عليهم الوضوء في الفجر في عز الشتاء . ومن عجب أن زعيم هذه الفئة كان إبراهيم ود طه ، الرجل الذي جاوز السبعين ، لكنه كان يقرض الشعر ، والفريق الثالث ، وقد كان أكثر المعسكرات وزنا فريق محجوب وعبد الحفيظ والطاهر الرواسي وحمد ود الريس وأحمد إسماعيل وسعيد .
كانوا متقاربي الأعمار ، بين الخامسة والثلاثين والخامسة والأربعين ، إلا أحمد إسماعيل فقد كان في العشرين لكنه بحكم مسؤوليته وطريقة تفكيره كان واحدا منهم . هؤلاء كانوا الرجال أصحاب النفوذ الفعلي في البلد . كان لكل واحد منهم حقل يزرعه ، في الغالب أكبر من حقول بقية الناس ، وتجارة يخوض فيها . كان لكل واحد منهم زوجة وأولاد . كانوا الرجال الذين تلقاهم في كل أمر جليل يحل بالبلد . كل عرس هم القائمون عليه . كل مأتم هم الذين يرتبونه وينظمونه . يغسلون الميت فيما بينهم ويتناوبون حملة إلى المقبرة هم الذين يحفرون التربة ، ويجلبون الماء وينزلون الميت في قبره . ويهيلون عليه التراب ، ثم تجدهم بعد