إسماعيل أصغرهم سنا وأقواهم ، ولما أعيته الحيلة عض الزين في ظهره . وكان الطاهر الرواسي رجلا مشهورا بقوته ، كان في بحثه عن السمك في الليل يعوم النيل ذهابا وجيئة ويغطس في الماء نصف الساعة فلا ينقطع نفسه . لكن قوته لم تكن شيئا بجانب الزين . وفي ضوضائهم سمعوا شخيرا يصدر من حلق سيف الدين وأوه يضرب برجليه الطويلتين في الهواء . وصاح محجوب : " مات كتله " .
لكن صوت الحنين ارتفع هادئا وقورا فوق الضجة : ( الزين . المبروك . الله يرضى عليك ) وانفكت قبضة الزين ووقع سيف الدين على الأرض هامدا ساكنا ووقع الرجال الستة دفعة واحدة . فقد فاجأهم صوت الحنين وباغتهم الزين بسكوته المفاجئ فكأن حائطا أمامهم كانوا يدفعونه ، إنهد بغته ، ومضت برهة قصيرة جدا ، مقدار طرفة العين ساد فيها صمت كامل ، لا بد أنه كان صمتا مزيجا من رعب وحيرة وأمل ، بعد ذلك جاشت الحياة فيهم مرة أخرى وتذكروا سيف الدين ، أنكبت رؤوسهم عليه ، ثم صاح محجوب بصوت فرح مرتعش ( الحمد لله . الحمد لله ) وحملوا سيف الدين ووضعوه على كنبة أمام دكان سعيد وفي أصوات متوترة خافتة أخذوا يعيدونه إلى الحياة حينئذ فقط تذكروا الزين فرأوه جالسا على مؤخرته ويداه بين ركبتيه مطأطئاًَ رأسه ، وكان الحنين قد وضع يده على كتف الزين في حنان بالغ ، كان يتحدث إليه في صوت حازم لكنه مليء بالحب : ( الزين المبروك . ليه عملت كده ؟ ) .
وجاء محجوب وانتهر الزين ، لكن الحنين نظر إليه نظرة أسكنته . وبعد برهة قال محجوب للحنين : لو ما كت جيت يا شيخنا كان كتله ، وانضم إليهم أحمد إسماعيل والطاهر الرواسي ، وبقي عبد الحفيظ وسعيد التاجر وحمد ود الريس مع سيف الدين ، وبعد برهة قال الزين وهو ما يزال مطأطئ الرأس ، مرددا كلام محجوب : " إن كت ما جيت يا شيخنا كت كتلته ، الحمار الدكر ، وقت ضربني في رأسي بالفأس قايل ماش اسكت له " .
لم يكن في صوته غضب ، كان صوته أقرب إلى مرحه الطبيعي منه إلى الغضب ، وسرت في الحاضرين رعشة مرح خفيفة ، لكنهم ظلوا صامتين ، وقال الحنين : " لكين أنت ما كت غلطان ؟ ) .
وظل الزين صامتا ، فقال الحنين مواصلا كلامه ( متين سيف الدين ضربك بالفأس في رأسك ؟ فأجاب الزين ضاحكا ووجهه مشبع بالمرح : ( وصت عرس أخته ) . واستمر الحنين وفي صوته هو الآخر رنة مرح : ( شن سويت لي أخته يوم عرسها ؟ ) .
( أخته كانت دايراني أنا . مشو عرسوها للراجل الباطل داك )
وضحك أحمد إسماعيل بالرغم منه . وقال الحنين في صوت أكثر رقة وحنانا : ( كل البنات دايرتنك يا لمبروك . بارك تعرس أحسن بت في البلد دي ) . وأحس محجوب بخفقة خفية في قلبه . كان فيه رهبة دفينة من أهل الدين ، خاصة النساك منهم أمثال الحنين . كان يهابهم ويبتعد عن طريقهم ولا يتعامل معهم . وكان يحاذر نبوءاتهم ويحس بالرغم من عدم اهتمامه الظاهري ، بأن لها أثرا غامضا . ( نبوءات هؤلاء النساك لا تذهب هدرا ) ، يقول في سره لعل هذا هو الذي جعله يقول بصوت مرتفع فيه رنة واحتقار : ( منو البتعرس البهيم دا ؟ كمان على العلية ، داير يجيب لنا جنيه ) . ونظر الحنين إلى محجوب نظرة صارمة ، ارتعدت لها فرائض محجوب لولا أنه تشجع ، وقال : ( الزين مو بهيم الزين مبروك ، باكر يعرس أحسن بت في البلد ) . وفجأة ضحك الزين ضحكة بريئة ، ضحكة طفل ، وقال ( كت داير أموته ، الحمار الدكر يفلقني بالفاس علشان أخته دايراني أنا ؟ ) فقال الحنين يحزم : ( دحين دايزنك تصالحه . خلاص الفات مات ، هو ضربك ، وأنت ضربته ) . ونادى سيف الدين ، فجأة بقامته الطويلة وحوله سعيد وعبد الحفيظ وحمد ود الريس . فقال الحنين للزين ( قوم سلم فوق رأسه ) . فقام الزين دون أي اعتراض وأمسك برأس سيف الدين وقبله ، ثم أهوى على رأس الحنين وأشبعها قبلا وهو يقول : ( شيخنا الحنين . أبونا المبروك ) وكانت لحظة مؤثرة أثارت الصمت في نفوس أولئك الرجال ، ودمعت عينا سيف الدين وقال للزين : ( أنا غلطان في حقك ، سامحني ) وقام وقبل رأس الزين ثم أمسك بيد الحنين وقبلها ، وجاء الرجال كلهم ، محجوب ، وعبد الحفيظ وحمد ود الريس ، والطاهر الرواسي ، وأحمد إسماعيل ، وسعيد التاجر ، كل واحد منهم أمسك بيد الحنين في صمت وقبلها . وقال الحنين بصوته الرقيق الوديع : ( ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم ) ووقف وأمسك إبريقه في يده . فسارع محجوب يستضيفه : ( لازم تتعشى معانا الليلة ) لكن الحنين رفض بلطف وقال وهو يمسك بيده الأخرى كتف الزين : ( العشا في بيت المبروك ) ، وغابا معاً في الظلام . رف على رأسيهما برهة قبس من ضوء المصباح المعلق في دكان سعيد ، ثم انزلق الضوء عنهما كما ضوء المصباح المعلق في دكان سعيد . ثم انزلق الضوء عنهما كما ينزلق الرداء الحريري الأبيض عن منكب الرجل . ونظر محجوب إلى عبد الحفيظ ونظر سعيد إلى سيف الدين ، ونظروا كلهم بعضهم إلى بعض وهزوا رؤوسهم .
بعد هذا الحادث بأعوام طويلة ، حين أصبح محجوب جداً لأحفاد كثيرين . كذلك أصبح عبد الحفيظ والطاهر الرواسي والباقون ، وحين أصبح أحمد إسماعيل أبا وصارت بناته للزاوج ، كان أهل البلد - وبينهم هؤلاء - يعودون بذاكرتهم إلى ذلك العام ، وإلى حادث الزين والحنين وسيف الدين الذي وقع أمام دكان سعيد ، الذين اشتركوا في ذلك الحادث يذكرونه برهبة وخشوع ، بما فيهم محجوب الذي لم يكن يأبه لشيء من قبل ، لقد تأثرت حياة كل واحد من أولئك الرجال الثمانية ، يستعيدون فيما بينهم . آلاف المرات تفاصيل الحادث . وفي كل مرة ، كانت الحقائق تتخذ وقعا أكثر سحرا . يذكرون في عجب كيف أن الحنين هل عليهم من حيث لا يعلمون ، في اللحظة ، عين اللحظة ليس قبل ولا بعد ، حين ضاقت قبضة الزين على خناق سيف الدين وكادت تودي به ، بل أن بعضهم يجزم أن سيف الدين قد مات بالفعل : لفظ نفسه الأخير ، ووقع على الأرض جثة هامدة ، وسيف الدين نفسه يؤكد هذا الزعم ، يقول أه مات بالفعل ، وفي اللحظة التي ضاقت فيها قبضة الزين على حلقه ، يقول أنه غاب عن الدنيا البتة ، ورأى تمساحا ضخما في حجم الثور الكبير فاتحا فمه . وانطبق فكا التمساح عليه ، وجاءت موجة كبيرة كأنها الجبل فحملت التمساح في هوة سحيقة ليس لها قرار ، في هذا الوقت ، يقول سيف الدين أنه رأى الموت وجها لوجه ، ويجزم عبد الحفيظ ، وقد كان أقرب الناس إلى سيف الدين حين عاد إلى وعيه ، أن أول كلمات فاه بها ، حين جاش النفس في رئتيه من جديد ، أول شيء تفوه به حين فتح عينيه ، أنه قال : " أشهد إلا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله " .
ومهما يكون فمما لا شك فيه أن حياة سيف الدين ، منذ تلك اللحظة ، تغيرت تغيرا لم يكن يحلم به أحد ، كان سيف الدين الابن الوحيد للبدوي الصائغ - سمي الصائغ لأن تلك كانت حرفته في بداية حياته ، ولما أثرى ولم يعد صائغا لصق به الاسم فلم يفارقه ، كان البدوي رجلا موسرا ، ولعله أثرى رجل في البلد ، جمع بعض ثروته بعرق جبينه ، من الصياغة والتجارة والسفر ، وبعضها آل إليه عن طريق زوجته . كان كما يقول أهل البلد . رجلا ( أخضر الذراع ) لا يمس شيئا إلا تحول بين يديه إلى مال ، في أقل من عشرين عاما ، كون من العدم . ثروة بعضها أرض وضياع ، وبعضها تجارة منتشرة على طول النيل من كرمه إلى كرمه ، وبعضها مراكب موسقة بالتمر والبضائع تجوب النهر طولا وعرضا ، وبعضها ذهب كثير تلبسه زوجته وبناته في شكل حلي يملأ رقابهن وإيديهن . ونشأ سيف الدين ولداً واحداً بين خمس بنات ، تدلله أمه ، ويد لله أبوه ، وتدلله أخواته الخمس . فكان لا بد أن يفسد ، أو كما يقول أهل البلد ، كان لا بد أن ينشأ هشا رخوا ، كالشجيرة التي تنو في ظل شجرة أكبر منها . لا تتعرض للريح لا ترى ضوء الشمس ، مات البدوي وفي حلقه غصة مريرة من ابنه . أنفق عليه مالاً كثيراً لكي يتعلم . فلم يفلح وأنشأ له متجراً في البلد فأفلس في شهر ، ثم الحقه بورشة ليتعلم الصناعة فهرب . وبعد لأي ، ووساطة وتشفع نجح في تعيينه موظفا صغيرا في الحكومة لعله يتعلم كيف يعتمد على نفسه . لكن لم تمضي أشهر حتى جاءته الأنباء تترى . من أفواه الأعداء والأصدقاء . من الشامتين والمشفقين على السواء أن ابنه يبيت ليله كله في خماره ولا يرى المكتب إلا مرة أو مرتين في الأسبوع . وأن رؤساءه أنذروه مراراً وهددوا بفصله من العمل ، فسافر الرجل إلى المدينة وعاد يسوق ابنه كالسجين وحلف ليسجننه طول حياته في الحقل - كالعبد الرقيق . هكذا قال .
ومضى عام على سيف الدين وهو يجمع العلف للبقر ويرعى الماشية على أطراف الحقل سحابة نهاره . يزرع ويحصد ويقطع ويتأوه . ومع ذلك فلم يعدم تلسية بالليل . كان يعرف أماكن صنع الخمر . ويصادق الجواري اللائي يصنعنها - ( الخدم ) : كما يقول أهل البلد كن رقيقا أعطي حريته . بعضهن هاجرن من البلد وتزوجن بعيدا عن موطن رقهن ، وبعضهن تزوجن الرقيق المعتقين في البلد وعشن حياة كريمة بينهن وبين سادتهن السابقين ود وتواصل وبعضهن لم تستهوهن حياة الاستقرار فبقين على حافة الحياة في البلد . محطا لطلاب الهوى واللذة . والحق أن مجتمع الجواري هذا كان شيئا غريبا . فيه روح المغامرة والتمرد والخروج على المألوف . هناك في طرف الصحراء بعيدا عن الحي ، تقبع بيوتهن المصنوعة من القش . بالليل حين ينام الناس . ترتعش من فرجاتها أضواء المصابيح وتسمع منها ضحكات مخمورة نشوى . ضاق بها أهل البلد فأحرقوها ، لكنها عادت إلى الحياة مثل نبات الحلفا . لا يموت . وطردوا سكانها وعذبوهم بشتى السبل . لكنهم لم يلبثوا أن تجمعوا من جديد كالذباب الذي يحط على بقرة ميتة
وكم من شاب مراهق ، خفق قلبه في جنح الظلام حين حمل إليه الليل ضحكات الجواري وصياح المخمورين . في تلك ( الواحة ) على حافة الصحراء . بشيء مخيف ، لذيذ رهيب ، يغري بالاستكشاف . ولم يكن عسيرا على سيف الدين أن يجد طريقه إليها . هنالك كان يقضي لياليه ، وكانت له من بينهن خليلة . كل هذا تحمله أبوه في صبر . كانت الأخبار تأتيه ، فكان يتغاضى أحيانا ، وأحيانا يثور . لكن صبره نفذ حين جاء سيف